وائل عبد الفتاح
عبد الخالق يشعر بالثقة الكبيرة وهو يسير بالتاكسى فى شوارع نيويورك.. حاملا القرآن والكتب الدينية يقرؤها فى أوقات استراحته.. ويفخر بأنه منح صوته لأوباما.. ويروى حكايات ذهابه للعمرة ضمن رحلة سياحية تضمنت زيارة الأردن.
عبد الخالق يؤلف أيضا كتب الدعوة إلى الإسلام.. ويشعر بأنه زمان فهو لم يكن يستطيع تربية لحيته المسدَلة بفوضوية فى بلاده الباكستان، حتى فى أثناء الحكم باسم الشريعة الإسلامية، وهو أيضا لم يعرف ويستمتع بدراسة القرآن.. إلا عندما قرر اللحاق بعائلته الكبيرة فى أمريكا منذ أكثر من ٢٠ سنة.
أسئلتى لعبد الخالق كانت على هامش سيول من الأسئلة عما يحدث فى مصر.. وعن العلاقة بين السنة والشيعة.. والمذاهب الشائعة.. ووضع المسيحيين.. والفرق بين مبارك والمرسى.. والوهابية.. والسلفية.. والإخوان.. وقبل أن أصل إلى الفندق سألته: لماذا تشعر بالثقة والاطمئنان.. وأنت هنا أقلية؟
نظر إلىّ عبد الخالق مندهشا.. ولم يجبنى.. وأخرج من درج السيارة كتابا باللغة الأوردية (المستخدمة فى الباكستان).. موقعا باسمه.. ويجمع فيه الآيات والأحاديث التى تتناول نظرة الإسلام لموضوعات فى الحياة.. وهو واحد من سلسلة ينشرها فى الباكستان وبين الباكستانيين المقيمين فى أمريكا.. وبينما أتأمل صفحات الكتاب جاء رد عبد الخالق على سؤالى: إنها الديمقراطية.
عبد الخالق يفهم الديمقراطية بالخبرة والتجربة، وفى سنواته الأولى عاش الوقت الذى كان ممنوعا فيه على السود ركوب الأوتوبيسات ودخول بعض المطاعم، ثم رأى كيف انتزعوا حقوقهم.. وهنا أدرك بنفس الخبرة أنه سيعيش رحلة الدفاع عن حق أصحاب البشرات البنية (على حد تعبيره) ومن ليس أبيض أو أسود.. وهكذا تبدو الديمقراطية عملية.. وليست حدثا ينتهى عند صندوق الانتخابات، حيث يخطف الفائز المفتاح.. ويوزع بمزاجه الأنصبة والمنح والعطايا.
لا بد أن يشعر عبد الخالق بالسعادة فى شوارع نيويورك وهو لا يهتم بمراقبة الآخرين أو التدخل فى حياتهم الشحصية.. مستمتعا بحريته أيضا فى اختيار شكل حياته.
لا يهتم عبد الخالق بإصدار فتاوى تحريم البكينى فى شواطئ فلوريدا ولا المينى جيب فى عز الشتاء فى شوارع نيويورك.. لا هو ولا أى من السلفيين المقيمين فى أمريكا.. ويراعون مساحتهم ويعرفون مدى قدسية الحرية الشخصية فى هذه البلاد فيحترمونها ويستمتعون بما تمنحه لهم من فرص الحياة كما تريد.
هذا لا يمنع من وجود متطرفين يرون أن بنى لونهم أو دينهم هم من يستحقون الحياة.. لكنهم يصنفون على قائمة التطرف.. ولا يملكون حق الاعتداء أو سلطة الاعتداء على حيرة وعقائد الآخرين.
هناك اعتراف بالواقع.. وبوجود اختلافات تمنح أمريكا قوتها.. وتجدد شبابها كلما استطاعت أن ينتمى إليها طيف أوسع يعيشون فى ظل نظام من بين أهدافه المذكورة فى الدستور: تحقيق السعادة.
مرة أخرى: لماذا شعر عبد الخالق بالأمان فى بلاد شنت قبل سنوات عن طريق رئيسها المجنون بوش الصغير: حربا صليبية.. على المسلمين؟
هل لأن أمريكا هى الجنة على الأرض؟
أم لأن ماكينة الرأسمالية تعامله بحنانها البالغ؟
طبعا لا أمريكا جنة، ولا الرأسمالية حنون فى العادة، لكن عملية بناء الديمقراطية أثمرت قواعدها فى عقد اجتماعى اتفق الجميع على أنه ضمان لسعادة الجميع.. وكلما سارت الديمقراطية للأمام تتأكد فكرة أنه لا معنى لطغيان مجموعة من البشر ولا تمايزهم بسبب الجنس أو الدين أو العرق.. ويمكن لمجتمع أن يختار امرأة فى موقع السيناتور.. لأنها أظهرت كفاءة.. بينما السيناتور القديم خسر مكانه بعد ١٤ عاما متواصلة.. حدث هذا فى ماديسون ولم يسأل المجتمع عن هويتها الجنسية، ولا عن حالتها الاجتماعية.. ولا عن لونها.. ولا دينها.. ولا حسابها فى البنك.. ولا لأنها تحمل صكوكا إلى الجنة.. أو ستدافع عن دين أو عقيدة أو وطنية.. فقط لأنها أظهرت ما لم يستطع السيناتور القديم مواجهته.
وأنا أنهى بحكاية السيناتور الجديد فى ماديسون، ربما نعرف سر سعادة عبد الخالق فى نيويورك..
وراجعلك يا مصر.
نقلاً عن جريدة "التحرير"