وائل عبد الفتاح
هل كانت واشنطن تعلم؟ لا أحد أجاب عن هذا السؤال. ما حكاية المؤامرة التى تقول بأن إدارة أوباما ضغطت على المجلس العسكرى ليعلن النتيجة لصالح المرسى.
بين الدهشة والعجب تتردد الحكاية كأنها خرافة بلا صاحب.. لم أسمعها من المصريين فقط بل من مستشار ظل يعمل لسنوات طويلة فى الملف المصرى. طرحها كعنوان للعلاقة بين أمريكا والنظام الحالى فى مصر، لكنها بلا أدلة.. طرحها كحقيقة.. دون مرجع. الدليل الوحيد هو تأييد المرسى فى الصراع مع المجلس العسكرى.. والذى بدا واضحًا حين أبدت الخارجية الأمريكية ترحيبها بإزاحة الديناصورات العسكرية، وهو ما أوحى بمعرفتها المسبقة، ثم نفى الرئاسة فى مصر بعلم أمريكا قبل الإعلان. المناوشات هى فارق خبرة ما زالت الرئاسة تتأرجح فيه بين خطاب «الدولة» العارفة بقوة «الحليف» وخطاب المعارضة الخجول من اتباع نفس خط السير الذى كان قبل قليل محل نقد وهجوم وتخوين. الأزمة تكررت فى محطات أساسية، منها مثلًا الرسالة البروتوكولية التى ردّ بها الرئيس على تهنئة الرئيس الإسرائيلى بيريز بقدوم شهر رمضان، وسرّبتها الصحف الإسرائيلية.. بينما كذّبتها الرئاسة وعادت وصحَّحت التكذيب بوصفها من الشؤون البروتوكولية. ارتباك لم يمنع بل أكد صورة بقاء الرعاية الأمريكية كما هى، وإن كادت بعض الروايات تقول إنها زادت، فى إطار خطة أمريكية لتمكين التيار الإسلامى من جمهوريات التحرر، لصنع حاجز محلى أمام جماعات الإرهاب تمتص طاقات غضبه واغترابه عن الأنظمة الحديثة. الروايات تتصرف وتتحدث عن صفقات، وخطط، وتتداول معلومات عن دعم مالى لحملات انتخابية، وهو ما يبدو بالتحليل مبالغة مقارنة بواقع يقول إن ما يحدث ليس سوى إعادة تجديد الوجود الأمريكى.. بإعادة نسج العلاقات مع الأطراف التى يمكنها أن تمنح شحنات حياة لأنظمة ماتت وحبست دولها فى مدافنها سنوات طويلة. الراعى الدولى.. يجدد نفسه إذن ليبقى على دولة تخدم مصالحه أو يخدم وجودها بهذه التركيبة.. مصالحه. الماجستير الذى قدمه رئيس الأركان الجديد اللواء صبحى صدقى.. يقدم مجموعة نصائح موجهة للإدارة الأمريكية فى تعاملها مع مصر. الماجستير أعد فى عهد بوش، لكنه يقدم رؤية أوباما فى تحقيق نفس المصالح دون استفزاز الشعوب المعتزة بكرامتها. هل نحن فى حقبة أمريكية جديدة ومتطورة؟ هل ستظل أمريكا سيدة ولها وكلاء على كراسى الحكم؟ أسئلة قاسية، لكنها يجب أن تطرح الآن وفى ظل حكايات الغرف المغلقة وعودة إدارة مسرح الماريونيت من خلف الستار السوداء. أمريكا كانت تدير المنطقة طربًا بمنح الوكالة لأنظمة تحقّق مصالحها بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا ما يتم منذ نقل التحالف الاستراتيجى من الاتحاد السوفييتى إلى الولايات المتحدة، عبر حكاية تختلف تفاصيلها من أيام السادات إلى الأيام الأولى فى عصر مبارك التى تختلف عن أيامه الأخيرة.صراع الوكيل.. ليست حربًا للدفاع عن السيادة الوطنية، لكنها تتم باسمها كما حدث فى عصر مبارك كثيرًا وحدث فى أزمة منظمات المجتمع المدنى أيام حكم المجلس العسكرى والمعروفة بـ«حرب فايزة» أو «مصر لن تركع». وهذه المعركة التى شارك فيها الجميع بداية من قيادة الجيش إلى الحكومة مرورًا بمشاهير المشايخ وأبواق النظام فى الإعلام.. انتهت بفضيحة.. لأنهم استخدموا الشعب ونشر العداء للأجانب.. وتعلية نبرة حماس النشيد الوطنى.. استخدامًا مثل الديناميت الفاسد الذى انفجر فى وجوههم عندما لم يضبطوا المعيار الذى يمكنه أن يحقق أغراض الوكيل فى ملاعبة المالك الأصلى. وهكذا فإن النظام المستبد يبحث عن حليف يعيش تحت جناحه أو رعايته أو يحصل منه على توكيل بالإدارة.
وهذا هو الفخ الذى قد يمنح للرئاسة طعم إدارة الدولة أو الشعور بأنه «بطل» الغلابة عندما يكسر بعض الأصنام العجوزة على المسرح. بينما تترتب الدولة على صورتها القديمة.. استمرار للهزيمة التى أعقبت انتصار أكتوبر (1973) والجريمة التى أنهت أسطورة النواة الصلبة فى أكتوبر (2011). إنجاز حرب أكتوبر الأساسى هو شحن حيوية الدولة المهزومة.. خرجت الدولة قوية.. بشكلها العسكرى.. فالرئيس عاد بطلا عسكريا.. وصاحب معجزات.وأنقذه الأصدقاء فى أمريكا الذين أوقفوا الثغرة، حسب نصيحة كيسنجر حتى لا يكسر النظام إلى النهاية… (الحكاية مشهورة وراويها هو هيكل بمستنداته المشهورة). الدولة القوية خرجت من الحرب باقتراب من العدو… وتكسير لروح الانتصار.. أعلن السادات أن 99٪ من أوراق اللعبة فى يد أمريكا. واعتبرت هذه الجملة هى حجر الأساس فى واقعية سياسية جديدة تنهى زمن الشعارات الرنانة.لكن الحقيقة أن واقعية السادات لم تتحرك خطوات أبعد من عاطفية عبد الناصر. دولة الاستبداد استمرت.. الفارق الوحيد أنه بعدما كان المستبد عادلا… تخلّى عن العدل.. وترك المجتمع غابة، الانتصار فيها للأقوى. جمهورية الخوف استمرت. وهذه كانت أساس الهزيمة. منع الخوف الناس من محاسبة المسؤول عما حدث فى 5 يونيو 1967.. ومنعهم من مواجهة قائد الانتصار، وهو يقتله قبل أن يتحوّل إلى روح جديدة تغيّر الدولة وتصلح شرخ الهزيمة. جمهورية الخوف كانت وراء الهزيمة العسكرية فى يونيو، حيث حولت أجهزة الاستبداد الحياة إلى رعب دائم.. وتحالفت تماما مع وحوش الفساد.. لتعود الدولة كلها إلى الوراء.
الدولة التى ارتبطت بحلم مغامرين (من محمد على إلى جمال عبد الناصر) ظلت أسيرة المغامرة، ولم تتحول إلى حقيقة تعبر عنها مؤسسات فوق الجميع.
نقلاً عن جريدة " التحرير"