وائل عبد الفتاح
من واشنطن:
وجدت نفسى فى قلب الشارع.
انتفضتُ من على مقعدى فى المطعم.
كنت أتابع الماراثون الانتخابى.. وفجأة قفز اللون الأزرق وانتصر أوباما.
ومن دون قرار مسبق وجدت الفرح يتسلل إلى نفسى.
هناك شىء ما يدفعنى إلى عدم الحماس لفوز رومنى ولا الجمهوريين.. شىء ليس عقلانيا تماما.. هو نفسه وراء الفرح الذى جعلنى أقفز من المقعد وأسير مع كل من قفزوا السلالم وخرجوا إلى الشوارع يهتفون بكلمات لم أتبينها فى البداية.. لكنى اقتربت وعرفت أنهم يصرخون «٤ سنوات أخرى…». سعادة بفرصة إكمال مشروع أوباما.. الذى بدا لى فى خطاب اختتام حملته، مرهقًا، لا ينقصه الشجن، والكاميرات بعد ذلك التقطت دمعة هاربة.
ربما هذا هو الفارق الذى من أجله لم أتوقع فوز رومنى، وكنت أميل إلى أن أوباما ما زالت لديه فرصة، وربما هذا سر من أسرار السعادة بفكرة يمكنها أن تلمس القلب.. لا أن تستعرض فقط إنجازاتها..
رومنى فى الخطاب الأخير قال إنه قادر على الإنجاز، لكنه لم يقل ما الإنجاز. إنها الفكرة التى تجعل جمع المال مهمًا فى حد ذاته أو الفخامة مبهرة فى حد ذاتها، أو كل ما يعبر عن نوع من الانتصارات يمثل قوة مطلقة من دون أن يكون لهذه القوة معنى.
رومنى والجمهوريون يشيرون إلى تلك القوة الاستثنائية التى كانت تتجسد فى عائلة تحكم (الملكية) أو تملك (الإقطاع) أو تنزل عليها بركات السماء (الدولة الدينية) أو بطل له بطولات عسكرية (الدولة العسكرية).. كل هذه الاستثناءات التى كانت تحكم من دون منافسة.. انتهى حكم الاستثناء فى العالم كله.. بعد الثورة الفرنسية، لكنه لم ينقرض، فما زال الحنين إلى الاستثناء موجودًا كلما شعر الناس بالضعف أو العجز، وهذا سر الحنين إلى الملكية فى مجتمعات عاجزة.. وإلى السلطة الدينية أو العسكرية فى مجتمعات لم تعرف السياسة.
رومنى داعب الأمريكان بلعبة الإنجاز.. وبدا لى بابتسامته الباردة يبيع مشروب الطاقة.. مغازلا الخلطة الأمريكية التقليدية.. السلاح والمال والإبهار.
وأوباما ضد التيار، يحاول بناء تركيبة قوة جديدة، تقدر بها أمريكا على استيعاب تنوعاتها، واختلافاتها، ويشعر كل هؤلاء المطرودين من مراكزها العليا أن لهم حقًا فى السعادة المشتركة.
مندوب رومنى فى إحدى اللجان تكلم بمنطق واثق: «..أوباما يصنع الانقسام بين الأمريكان…» هذا هو مفهومه للاهتمام بالطبقة الوسطى ليعيد منها بناء مجتمع تترتب مصالحه كما لو كانت قدرًا أبديًّا.
وهذا أحد أسرار السعادة.. هناك من يريد تفكيك القدر السياسى… هناك ما يشير إلى شباب ما… قوة ما ترقد خلف هذا الركود الثقيل…
هناك شىء ما جعلنى أشعر أن الاحتفال بأوباما أمام البيت الأبيض فيه ما يخصنى، وما يجعلنى شريك كل هؤاء الذين يريدون أمريكا قوية، لكن على طريقة أوباما.. لا تشغلنى قوة أمريكا ولا ضعفها هنا. يشغلنى أن هناك من يتعامل مع الأحلام.. والخيال باعتباره شريكًا.. وليست هواجس ولا أوهام.. أوباما، ورغم أنه أصبح واقعيًّا بعد ٤ سنوات ما زال يمثل ذلك الجزء الحالم.. أو ما تبقى منه…
السائق الباكستانى قبل إعلان الفوز شعر بالخوف من إعلان أنه منح صوته لأوباما… وقالها كأنها اعتراف… بينما السائق السودانى كان فخورًا ورفض أن يأخذ الحساب، لأنه سعيد بالفرصة الجديدة أمام أوباما.. (ولأننى مصرى).
السيدة التى تقترب من الخمسين كانت تقترب من البيت الأبيض… سألتها: «من أين؟» قالت: «جامايكا» واستمرت فى الرقص، وهى تقدم بقية رفاقها: «..من الهند… من.. من..». إنه الساحر المرهق الذى جعل كل هؤلاء يهتفون: «يو إس إيه» ويشعرون أنهم أبناء أمة كانوا فيها ضيوفا..
والحكايات لم تنته بعد عن تلك الليلة التى لم تنم فيها واشنطن.
نقلاً عن جريدة "التحرير"