وائل عبد الفتاح
لم أرَ رئيس الحكومة متحمسا لقرار أكثر من حماسه لقرار إغلاق المحلات فى العاشرة.
لم أره حماسيا إلا وهو ينفى تراجعه عن القرار.. مؤكدا أنه سينفَّذ بحسم بالغ، بعدما قال فى تصريح سابق إن القرار يخضع لنقاشات مع الغرف التجارية لأن القرار صدر دون هذه النقاشات، ليكتشف أنه سيحقق خسائر تقدَّر بـ٢٥ مليار دولار وسيضيف مليون عاطل جديد.
اكتشفت الحكومة بعد اتخاذها القرار الفاتورة الباهظة لتنفيذه. إنها مثل غيرها حكومة تقرر قبل أن تفكر، وتريد السيطرة، ولا شىء غير السيطرة، وهذا سر حماس رئيس الحكومة الذى لا يتحمس عادة، ولا يفعل سوى ابتسامات وتصريحات يتكلم فيها كثيرا دون أن يقول شيئا.
رئيس الحكومة يريد أن تنام القاهرة مبكرا، تحقيقا لأمنية الحكام الجدد كما كتبتُ قبل أسابيع فى جريدة «الأخبار اللبنانية». يريدون أن تخرج القاهرة من موقعها على رأس المدن التى لا تنام.. وكل هذا ليس من أجل الصالح العام أو لتوفير الكهرباء ولكن لفرض سطوة البيروقراطى السعيد بمهمته الجديدة، ومعه المسؤول الحالم بفرض سيطرته على الفضاء العام.
يحلم الحكام الجدد بهندسة للفراغ تتيح لهم تنفيذ إحدى وصايا حسن البنا المشهورة بالنوم فى التاسعة لتنفذ كتالوج الإنسان الصالح.
ليس الأمر متعلقا بخطة ترشيد كهرباء، لكنها رسالة إنذار إلى الشعب المنفلت أننا هنا، والفراغ الذى شغله مبارك بالعسكر والمتلصصين وكمائن الاستعراض البوليسى، سيُشحن فى عصر الإخوان بموظفين ودعاة أخلاق رشيدة وحماة فضيلة منثورة فى كتالوجات ترسم العالم الافتراضى فى مدينة تحت السيطرة.
إنهم يعادون مزاج القاهرة فى صنع تجاورات تبدو لزائرها مرعبة، الأزمان كلها موجودة فى القاهرة: الحى والميت، النشيط الذى يزحم الشوارع فى الصباح، وأهل الليل الذين يشكلون شعبا آخر، وبين النشطاء والليليين، يعيش أغلب سكان القاهرة، مدينة لا يحددها برنامج فوق العادات اليومية.. لا ساعات العمل ولا مواقيت الحكومة ولا دورات النهار والليل، يمكنك أن تجد القاهرة وقتما تريد.. هذا سحرها وجاذبيتها وصدمتها للزائرين القادمين من مدن ترسم إيقاعها على لوائح الإفادة.
الحكام الجدد يريدون أن تغير القاهرة إيقاعها وتتحول إلى مدينة مطيعة للائحة، أين سيذهب شعب الليل إذن؟
ومتى يجد الغرباء والمغامرون الهاربون من النشاط النهارى مكانا يحرسه أهل الليل؟
الجميع ينتظر، متحفزا لكل من يقترب من حدوده. أصحاب المقاهى والمحلات يتوعدون من سيطلب منهم التزام القانون، والعائشون فى سهر القاهرة يشعرون بخيبة اضطرارهم إلى الدفاع عن مساحتهم، أما الأرقام فتشير إلى أن تطويع المدينة سيجلب خسارة لا يمكن تجاهلها.
القاهرة ليست مجرد مدينة فوضوية، لكنها فوضى تركب على نظام، أو تشعر معه بالندية، وهذا ما يبدو مزعجا لأصحاب الكتالوجات ولكن هواة الحياة يرون فيها إنسانية فالتة من «النظام الحديدى» وتمردا على جاذبية الماكينة الكبيرة التى تبتلع داخلها سكان المدن الغربية وتلقيهم خارجها بمواعيد فى نهاية الأسبوع.
ماكينة القاهرة فريدة، وربما وحدها مع الهند، لا يطغى نظامها على فوضاها أبدا.
هل يستطيع الإخوان ما فشل فيه السادات ومبارك، وكلاهما فكّر فى اقتحام الفضاء الوحيد المسموح فيه بحرية الحركة؟ أراد السادات صنع صورة المدينة الغربية، هو الذى فتح المجال لترييف القاهرة بضرب الطبقة الوسطى، وسماحه بهجرات الشطار، واستكماله مشوار عبد الناصر فى إهمال معمار المدينة لصالح وظيفتها البحتة فى استيعاب أكبر قدر من السكان.. ومبارك بقدراته المذهلة فى نشر الانحطاط والأنانية المفرطة أطلق شرارة القضاء على كل ما يمكن تعريفه بالمجال العام.
نقلاً عن جريدة " التحرير "