وائل عبد الفتاح
هناك فرق بين السياسى والسلطوى.
السياسى لاعب لا وجود له إلا بالملعب أى بتعدد اللاعبين.. ويدرك بقانون السياسة أنه لا لعب إلا بالاعتراف بالآخرين.. ودون هذا الاعتراف يُلغَى اللعب.. ويتحول إلى تقسيمة أو صراعات داخل القصور على من يقتل خصمه أولا.
السياسة ليست الكذب أو اللوع.. لكنها اعتراف بوجود الآخرين وأحقيتهم فى المشاركة، لهذا فإن كلام السياسى يظل محل مراجعة عكس كلام السلطة التى ينزل كلامها من أعلى وهو جزء من هيبتها أو قدرتها على التنويم المغناطيسى للجماهير المنتظرة كما كان يفعل هتلر ومن سار على دربه.
يمكن للسياسى إذن أن يصل إلى السلطة.. لكنه يعرف أنه عابر فى فترة -مهما طالت- عابرة.. وهذا ما يجعله يمارس هذه السلطة بهذا الوعى.
وعدم إدراك الفرق بين السياسى والسلطوى.. هو تقريبا ما يفسر تغير شخصيات محل احترام بمجرد عبورها عتبة السلطة.
أغلب هؤلاء ليسوا سياسيين بمعنى من المعانى.. لكنهم يمتلكون سلطة معنوية تتحول إلى سلطة مجردة بسرعة مدهشة.
ماذا يحدث لمن يصل إلى السلطة؟ هل يدخل فضاء سحريا يبدل كيانه ويحوله إلى كائن سلطة؟
قلة الكفاءة أعادت الدولة فى مصر إلى عصورها البدائية، حيث الأساسيات صعبة من أنبوبة الغاز إلى الطريق الآمن، والتصورات السلطوية أيضا أعادت الرئيس ومستشاريه إلى ما قبل الدولة.
المرسى وفريقه من فصائل إلغاء السياسة، يستبدلون بها سلطتهم المعنوية السابقة، ويكاد يكون شعارهم «ما دمنا فى الحكم.. فاطمئنوا».
نرجسية ترى الديمقراطية وسيلة لوصول الحكم إلى مستحقيه، وهم بالطبع مستحقوه، ولمجرد وجود كل هؤلاء الرجال الطيبين فى موقع السلطة، فإن الخير تحقق.
هذه النرجسية كاشفة الآن لمأزق رهيب، فمثلا تيار استقلال القضاء الذى هز مصر كلها سنة ٢٠٠٥ عندما كشف عن تزوير الانتخابات.. وأصبح كل من المستشارين محمود مكى وهشام البسطويسى رمزا لثورة القضاة على الطغاة، الآن هذا التيار فى الحكم والمستشار محمود مكى هو نائب الرئيس وشقيقه الأكبر المستشار أحمد مكى وزير العدل، أما رمز هذا التيار المستشار حسام الغريانى فهو رئيس الجمعية التأسيسية ورئيس مجلس حقوق الإنسان.
هم جميعا شركاء فى إعادة هندسة الفراغ السياسى لتكون السلطة مركزها المسيطر والمهيمن، وحجتهم أن السلطة الآن نظيفة اليد.
الأخلاق الشخصية هنا بديلة للسياسة، مع أن طبيعة الشخص ترتبك أمام السياسة التى هى عملية لها سيرورة وليست حدثا تستعرض فيه الأخلاق نصاعتها.. لكنها قواعد توضع فوق الجميع ويتساوى أمامها الجميع.. ولا ترتبط بحسن أخلاق أحد أو بملائكية آخر.. وهكذا.
بدا واضحا الآن أن مفهوم استقلال القضاء لم يرتبط فى مفهوم هذه المجموعة بالحريات ولكن بهيبة القاضى، لهذا فحكايتهم الأيقونية هى حكاية القاضى العز بن عبد السلام الذى أصر على بيع الحاكم المملوكى لأنه مملوك.. هيبة القاضى هنا لم تحرر العبد لكنها اعتبرت أن تنفيذها للثقافة السائدة ندِّية مع السلطة.
وهذا المفهوم يرتبط بالسلطة ويرى «أننى ما دمت موجودا فى السلطة فهى نظيفة»، وليغلق الفضاء على هذه الذوات النظيفة.. ولا مجال للحريات أو لهندسة خارج حدود هذه الهيبة النرجسية.
هكذا فإن أول مشاريع وزير العدل قانون جديد للطوارئ، يحاول أن يمرره فيفشل فيغير قناعه ليصبح «قانون الحفاظ على مكتسبات الثورة»، باعتبار أن الثورة هى الرئاسة الآن ولا شىء خارجها.. وانتصار الرئيس فى معركة النائب العام ولو كانت تنفخ سلطة الرئيس، فإنها بالنسبة إلى مهندسها نائب الرئيس، تطهير للقضاء لأن نيتها جيدة، ومن يقوم بها رئيس طيب.
هذا تقريبا ما يدور فى عقلية الحكام، فهم يستبدلون بالسياسية الأخلاق، ويعتبرون ذواتهم بديلا من الكيانات السياسية، ووجودهم وحده يكفى.
وهى مفاهيم وتركيبات ستدمر نفسها بعد أن تكون قد أسهمت فى مزيد من الكوارث.
نقلاً عن جريدة "التحرير"