وائل عبد الفتاح
1 حسن سليمان فى وصيته رفض طقوس العزاء.
لم يفعلها غيره تقريبا. سار مع التمرد إلى آخره. حتى وهو لم يعد مسيطرا على جسده. ترك ظلا لروحه ترفض الانضواء والامتثال لكل ما هو مبتذل ومتحكم فى حياة الإنسان.
هو «المتر».. كما يسميه الفنان عادل السيوى أو «المعلم».. أو «الأسطى» كما يمكننا أن نترجم موقع حسن سليمان. تعلّم على يد أساتذة كبار مثل أحمد صبرى ومارتان الفرنسى الإيطالى.
أجيال عرفت فى ورشته/ الأتيليه أن الفن عمل دؤوب وشاق.. وليس مجرد إلهام وشطارة.. اللوحة أمامه ساحة معركة.. انتصاره فيها الوصول إلى أعلى درجة من الإتقان.. معلّم يمتلك موهبة.. يضعها كلها فى ترسيخ أصول الفن.. وهذه نوعية على وشك الانقراض فى مصر.. نعم، الأُسْطَوَات ينقرضون ويتركون وراءهم فراغات هائلة.. زمن كامل ينسحب بهدوء شديد.. كأن هناك مَن قرر أن نواجه وحدنا الزمن المربك الذى نعيشه.
2
عاش حسن سليمان 80 سنة بالطول والعرض.. ونال شهرة واسعة منذ معرضه الأول، وكان وقتها أقرب إلى طفل.. يخترق عالم الثقافة والفن أول الأربعينيات.. العالم الذى كان عالميًّا بكل المعانى.. فنانون من إيطاليا وفرنسا.. يشعرون بأنهم مصريون بالانتماء الواسع الذى لا يفصله اللون أو الجنسية أو الدين.. عالم خصب.. مشغول بتفجير طاقة البشر.. والفرح بقدرات الإنسان التى تكبر يومًا عن يوم.. كلما وصل إلى نقطة تمرد.. سعيًا لاكتشاف جديد.. فى هذا المناخ عرف حسن سليمان الحياة والفن.. اكتشف حواسه اللماحة لتفاصيل الضوء واللون.. والخبيرة بمذاقات وملامس.. لم يكن حسن سليمان رسامًا فقط.. عمل مدرسًا فى المسرح والسينما (محمد خان وخيرى بشارة وداوود عبد السيد من تلامذته).. كان مرشدًا إلى قاهرة مختلفة.. تمتزج فيها الأرستقراطية بالشعبية.. الفن والثقافة.. والشعور بالتميز خلق حالة أرستقراطية خاصة بحسن سليمان.. العارف بالحوارى والأزقة.. والخبير بدروبها وملامح شخصياتها.. تعلمت من حسن سليمان أن أبحث عن «الخامة».. فهى سر الحياة.
3
قابلت حسن سليمان أول مرة وهو يعبر السبعين. اسمه كان يصحبه رنة عند مثقفين وفنانين. ووقتها كان ما زال يطارد رغبة فى نفسه، «للإمساك بشىء نراه وعندما نرسمه نجده أفلت منّا». إنّها الرغبة فى الوصول إلى اكتمال مستحيل، لعبة مثيرة يمزق فيها الفنان غلالات شفافة من ذاته، ليصطاد شيئا يبدو كالطيف مرة، وعاصفا مرة، ومراوغا متسللا مرات: هو الشىء الغامض السحرى الذى لا يسلّم نفسه تماما، فيترك الفنان «متسكعا على شواطئ المجهول»، هكذا يروق لحسن سليمان أن يصف الفنانين الذين يصفهم بأنهم «الحقيقيون».
تركنى فى أثناء حوار من حواراتنا وعاد إلى موقع عمله ليتأكد من موقع الخط الذى وضعه فى اللوحة، ثم قال وهو عائد: «لا بد أن يعمل الفنان كل يوم من 6 إلى 8 ساعات.. أن يقرأ، يقلب فى الصور، ويشخبط. أصابعى لا بد أن تلمس الألوان يوميا».
ننظر معا إلى الموديل السمراء التى يكاد ينتهى من لوحتها، ونستكمل قصيدة الشاعر اليونانى ريتسوس:
«كل كلمة منفردة هى سفر خروج
رحيل مقدس للقاء.
تُلغى وتُحذف، أو تُؤجل مرات عدة.
تصبح كلمة حقيقية.
فقط.