محمد دحلان طبعة حديثة من الرجال الغامضين.
ولم يَدخل بعدُ عالمهم الحزين.
ما زال شابًّا بالمقارنة مع السائد فى هذا العالم الغامض الحزين.. (٥٣ سنة)، ولم يصل إلى طموحه الكامل أو لم يستقر فى موقع دائم، هو ما زال أسير الرياح التى تقفز به مرة إلى مصر (قبل مبارك حيث أقام بعد غياب عرفات وأدار بزنس ما قيل عنه أهوالًا صحفية)، وإلى الإمارات (حيث تتفاعل خبرته فى نَسْج الشبكات وغزل الأدوار مع طموحات الجيل الجديد من الحكام هناك)، مرورًا طبعًا بمحطات فى المنظمات الفلسطينية وسلطتها جعلته أشهر رجل غامض فى العشر سنوات الأخيرة.
الغموض أتى به إلى القاهرة ليس لأن له مقر إقامة (هو أحد مقراته)، ولكن لأن «آل نيوزويك» أعلنت عن دوره فى توقيع اتفاق سد النهضة بين مصر وإثيوبيا، ونشرت للتأكيد صورة له مع مدير المخابرات اللواء خالد فوزى، ومعهما رئيس وزراء إثيوبيا ووزير خارجيته.
وهنا تناثرت كتابات (بعضها إخوانى/ والبقية من أطراف منافسة لدحلان فى المجال الفلسطينى) عن علاقة دحلان بالسيسى/ أو عن طموحات دحلان فى الوصول إلى مكان أبو مازن، عبر توسيع أدواره الدولية، أو التأكيد على أنه عراب الدور الإماراتى (فى موازاة مع دور عزمى بشارة كعراب للدور القطرى).
وهذه الشحنات الصحفية حملت أيضًا أخبارًا عن انزعاج مصرى من الإعلان عن دور دحلان فى اتفاقية السد الإثيوبى (بل وذهبت إلى أن دحلان وراء التسريب).
لكن هذا ما لا يهمنى فى قصة دحلان.
يهمنى أساسًا الماكينة التى تنتج هواء الغامضين وتجتذبهم إلى عالم تكون غالبًا نهايته حزينة، هل فى هذا غرور يوحى لصاحبه بأنه سيكسر القاعدة؟ أم أنها نشوة الدخول إلى هذا العالم بكل ملذاته ومضخات الأدرينالين الجبارة فيه؟ أم أنها واقعية مَن يرى أنه ليس هناك اختيار آخر إذا كنت طموحًا؟
قبل نحو ٧ سنوات كتبت عن «خلطة دحلان»:
منظمة «فتح» جدّدت نفسها (قبل أن تصل المنافسات الداخلية فى المنظمة إلى اتهامات لدحلان بالفساد، وطرده من اللجنة المركزية). ربما من قبيل المبالغة والتشويق يمكن تسميتها مرحلة دحلان. هو رمز خلطة مبتكرة بين رجل البزنس ورجل الدولة.. ولأن البزنس الفلسطينى ملتبس، والدولة تنتمى فلسطينيًّا إلى الواقع الافتراضى، فهو ابن الغموض والواقعية الصادمة أحيانًا إلى حد الفجاجة. يستطيع تحريك قوة نائمة فى تركيبة «فتح». يحركها بنبرة عصابية تكشف عن ملل لغة الرئيس محمود عباس وفتورها. هو سليل حكماء ما بعد سنوات الثورة والنضال المفتوح عبر عواصم العالم من بيروت إلى ميونخ مرورًا بتونس وقبرص وعدن وطبعًا القاهرة.
دحلان محترف، نسج علاقات مع أضداد، كلهم يتعاملون معه، وكلهم يخشونه ولا يمنحونه الأمان فى الوقت نفسه.
تُروى أساطير عن علاقاته مع أجهزة مخابرات متصارعة من الموساد إلى المخابرات المصرية، وفى الأساطير نفسها تتصارع هذه الجهات على أبوّته، من ياسر عرفات إلى أجهزة مصرية. وفى الوقت نفسه، هو رجل المخابرات الأمريكية وناقل رسائل عرفات إلى الموساد.
تركيبة تشبه فى تعقيدها تراجيديًّا الوضع الفلسطينى، ودحلان فى قلبه. رجل فعّال وديناميكى.. هو حامى «فتح» وأسدها المدافع عن كرامتها الضائعة فى غزة. وهو رمز الخيانة السِّرية أيضًا.. قائد وعميل، تلك صورته ومصدر فاعليته ومهاراته فى تربيط التنظيم السائب.
البطل الملتبس سيقود التغيير فى قلب «فتح» التى ستتفرغ تقريبًا لاستعادة دورها فى الخندق الفلسطينى. هو أيضًا مهندس الجسور الأكثر حيوية بين القاهرة ورام الله.. القاهرة ملهمته، فيها يلتقى نصفاه: البزنس والسياسة.
هذا ما كتبته عند اللمعان الأول لدحلان.. هل هناك مزيد من الإثارة فى ما يتعلق بالرجل الغامض الذى لم يصل بعد إلى عالمه الحزين؟