"لقد أخذوا السلطة ولم يعطونا الدولة.."
هذه تكملة متخيلة لنص شهير لمحمد الماغوط قال فيه:
«لقد أعطونا الساعات وأخذوا الزمن»
«أعطونا الأحذية وأخذوا الطرقات»
«أعطونا البرلمانات وأخذوا الحرية»
«أعطونا العطر والخواتم وأخذوا الحب»
«أعطونا الأراجيح وأخذوا الأعياد»
«أعطونا الحليب المجفف واخذوا الطفولة»
«أعطونا السماد الكيماوي واخذوا الربيع»
«أعطونا الجوامع والكنائس وأخذوا الإيمان»
«أعطونا الحراس والأقفال وأخذوا الأمان»
«أعطونا الثوار وأخذوا الثورة»
نعيش الآن في ظل سلطة طافية، تبحث عن سيطرة، بينما تحللت الدولة ولم يبق منها إلا «هيكل فارغ»، يتحول في اللحظة الراهنة إلى ملاجئ ومخيمات للاجئين والخائفين من الانهيارات، أو عصابات منتظري الخلافة.
وبينما المجتمع تتفسخ روابطه الإنسانية، في استقطاب مفتوح حول كل شيء، من الطائفة، وحتى الموقف من «الزبالة»، يتحول إلى مجموعات من الخائفين أو الباحثين عن صيد هنا أو هناك من بقايا السلطة.
وهذا ما يجعل البعض يعتبر أن «الرفض الصادق» لما يحدث هو بربرية «داعش»... وأخواتها الكبار والصغار.
ــــ 2 ــــ
«داعش» أم السعودية؟
من سيستمر مثلا: «الدولة» أم العصابة؟
... القيادة لم تعد في قدرة دولة أكلت مشروعها السلطة، فالانهيارات أسرع من أحلام التوسعات الإقليمية، سواء كانت قادمة من طهران أو الرياض، لا امبريالية إقليمية قادرة على العيش هنا في بلاد لم يترك فيها الاستبداد شيئاً صلباً، إلا الغرائز المتخشبة على إحباطها؟
كيف ستعيش من دون سياسة إلا بالحرب؟ أو الاحتقان الخائف من الحرب؟ وكيف ستعود السياسة إلى كيانات تحولت إلى غبار فاقد للروح؟
لن تعود السياسة إلا مع عودة المجتمع، المدفون تحت رماد السلطة وحروبها، والذي لا يعود بالتواطؤ القديم مع الاستبداد، حين يتحول الإنسان إلى «كائن مذعور» يعيش حالة لجوء دائم لدى السلطة... غارقاً في الحنين إلى أزمان منقرضة، بديلاً عن صنع حياة، واجتماع على قيم أو تصورات قابلة للعيش المشترك.
هذه الحياة البائسة تصنع للعصابة بريقاً برغم أن عمرها قصير.. روحها قائمة على التخريب لتصنع بقعة لاستعراضها المدمّر.
ــــ 3 ــــ
تشترك العصابة و»السلطة» في أكل الدولة....
لا تعترف أياً منها بمقومات «الدولة..» و «المجتمع..»
وهذا ما يجعل المسافة بينهما الآن تضيق في لحظات الانهيار وتغيير العالم، تضيق إلى درجة أن ما يميز «السلطة» هو الحنين إلى أزمنتها «الجميلة»... أزمنة قامت على وعود لم تتحقق أو موديلات لم تكتمل... لم يعد الرابط سوى فيض عاطفي لا يمتّ للواقع إلا بما يجعلها تواريخ أو صور تختزل الوقائع في «كارت بوستال» تمّحي التفاصيل في خلفيته.
لا يبقى من «الكارت البوستال» إلا انتظار المعجزات من حاكم «استثنائي» أرسلته عناية السماء (دولة حاكم ديني) أو وريث عائلة مالكة للبلاد (ملكية) أو بطل مغوار يحقق الانتصارات (جنرال)... أو خليط من كل هذه الاستثناءات.
وهذا يعني أن الحنين أصلاً إلى عصور ما قبل الثورة الفرنسية التي كان سعيها الأساسي إلى «إسقاط دولة الاستثناء» (بالمساواة..) وتعديل العلاقة بين الحاكم والشعب (الحرية...).
وبالطبع هناك حنين إلى دولة الخلافة / بداية من الخلفاء الراشدين، وإلى السلطنة العثمانية، لكنه حنين لا يسعفه أرشيف صور، لكنه يعتمد على خيالات تصطاد من الكتب الصفراء شكل الناس والحياة فنراهم في الشوارع تجسيدا لعالم متخيل... تعيشه شخصيات كأنها خارجة من خيم قبيلة قريش.. تبحث عمن يقسمها إلى فريق للمؤمنين وآخر للكفار.
الحنين الأخير يقتل أكثر، لكنه يكمل دائرة كاملة نعيش فيها متاهة ما بعد تحلل «دولة التحرر من الاستعمار...»، وفي المتاهة يعيش كل شخص حياتين، الأولى متخيلة يختار فيها زمن واحد يبني عليه كل تصوراته الذهنية، والثانية واقعية يعيش فيها واقعياً بما تتيحه الغريزة والحيلة.