أخطأت الحكومات السابقة حين تصورت يوما ان الإستثمار يعنى بيع وتجارة الأراضى، وانتشرت هذه المنظومة الخاطئة سنوات طويلة وافسدت كل مظاهر الإنتاج بكل انواعه فى الزراعة والصناعة والتكنولوجيا الحديثة وتحولت الدولة الى سمسار يبيع ويتاجر فيما تملك مصر من الأراضى ..
وقد ترتبت على هذه السياسة خسائر فادحة حين حرمت الأجيال القادمة من حقها وحرمت قطاعات كبيرة من ابناء هذا الوطن فى بيت او سكن او قبر .. وللأسف الشديد فإن هذا الشبح مازال يسيطر على فكر اصحاب القرار فى الحكومة رغم الأضرار التى افسدت اشياء كثيرة فى حياتنا .. اقول ذلك وقد بدأت الحكومة تضع سياساتها على نفس السياق وكانت الصورة الأكثر وضوحا هى مشروع جديد يعطى لإتحاد الإذاعة والتليفزيون الحق فى بيع عدد من الأصول التابعة له لإصلاح وضعه المالى وسداد جزء من الديون بجانب توفير السيولة المطلوبة لتشغيل منظومة العمل فى إتحاد الإذاعة والتلفزيون بما يملك من القنوات التلفزيونية والأقمار الصناعية والإذاعات.
الفكرة ليست جديدة وقد طرحت قبل ذلك وقد عارضتها بشدة قبل ثورة يناير حين كنت عضوا فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون .. ان اتحاد الإذاعة والتليفزيون يضع يده على قطع من الأراضى اهمها بطبيعة الحال مدينة الإنتاج الإعلامى بما فيها من المنشآت والمعدات ومساحات خالية من الأراضى التى لم تستثمر بعد .. هذا بجانب النايل سات بمعداته واجهزته وايضا مساحات الأراضى المحيطة به ولكن المساحات الأخرى تتناثر على امتداد مصر من الأسكندرية الى اسوان وهى عبارة عن الأراضى التى اقيمت عليها مراكز الإرسال التليفزيونى والإذاعى ولكل منها حرم من الأراضى الخالية واكبر المساحات من هذه الأراضى يوجد فى مركز الإرسال بالمقطم والآخر بالهرم .. هذه هى الأصول التى يضع اتحاد الإذاعة والتليفزيون يده عليها وهنا اريد ان اوضح بعض الجوانب:
اولا : ان هذه الأراضى تدخل فى نطاق التخصيص وليس الملكية بمعنى ان الإتحاد لا يستطيع بيعها لأنه لا يملكها فهى فقط مخصصة من الدولة فى نطاق نشاط الإتحاد وهذا النشاط يدخل فى نطاق محدد وواضح وصريح فلا يحق له ان يبيعها لكى تتحول الى عمارات ومنتجعات ومولات وانشطة تجارية .. وهنا يصبح مبدأ بيع هذه الأصول اعتداء على حقوق الدولة صاحبة الملكية لهذه الأراضى.
ثانيا : ان ديون اتحاد الإذاعة والتليفزيون تجاوزت الأن 20 مليار جنيه وهذه الأصول لاتمثل رقما كبيرا ومؤثرا فى سداد هذه الديون حتى لو صرحت الحكومة للإتحاد ببيعها او التصرف فيها .. ولا ادرى هل من حق الحكومة ان تتنازل عن ملكية هذه الأراضى للإتحاد بحيث تعطيه الحق فى بيعها .. وماذا عن بقية الديون خاصة ان فوائد بنك الإستثمار تمثل 40% من حجم هذا الدين .. ان الرقم الأصلى للدين يبلغ 12 مليار جنيه والسؤال هنا : لماذا لا تعاد جدولة الدين فى إطار إسقاط جزء من الفوائد وقد حدث ذلك فى فترة من الفترات مع عدد كبير من رجال الأعمال حين تنازلت البنوك عن فوائد القروض وبعضها تنازل عن جزء من اصل الدين فى هذه التسويات؟!
ان المشكلة الأكبر فى قضية الديون بين بنك الإستثمار واتحاد الإذاعة والتلفزيون ان مدينة الإنتاج الإعلامى والنايل سات بكل الأصول مرهونة للبنك ولا يحصل اتحاد الإذاعة والتليفزيون على اى عائد من دخل هذه المنشآت حيث يتوجه الدخل كله الى البنك سدادا للفوائد والديون .. ان الأخطر فى اتفاق الرهن بين البنك واتحاد الإذاعة والتليفزيون ان من حق البنك بيع هذه الأصول لنفسه او للغير وهذا يضع إشكالية كبيرة بين الحكومة والبنك والأصول التى ترغب الدولة فى بيعها سدادا للديون.
ثالثا : ان بيع اصول اتحاد الإذاعة والتليفزيون ليس حلا امام هذا الحجم من الدين وامام التزامات مالية ضخمة تتمثل فى مرتبات وارباح ومكافآت اكثر من 43 الف موظف يعملون فى اكثر من 20 قناة فضائية وما يقرب من 100 محطة إذاعية بجانب نفقات مدينة الإنتاج والنايل سات وكلها اعباء ضخمة .. ان الأزمة الحقيقية ان بيع هذه الأصول لن يكون مجديا امام ضخامة حجم الدين والأموال المطلوبة لإدارة شئون الإتحاد وتراكم الفوائد يوما بعد يوم خاصة ان البيع ليس الحل الأمثل فى كل الحالات وان كانت هناك افكار تتردد حول بيع المنشآت ايضا وليس فقط الأراضى الخالية كحل كامل للأزمة .
رابعا : ان الخطأ الجسيم الذى وقعت فيه الحكومات السابقة انها لم تعترف يوما بدور الإعلام كنشاط خدمى وليس استثمارى وتصورت ان القروض هى الحل لكى يستكمل هذا الجهاز دوره ومسئولياته واسقطت تماما المسئولية الوطنية والقومية التى يقوم بها هذا الجهاز .. كنا نطالب بأن يكون هناك نشاط استثمارى يتمثل فى انتاج وتسويق الأعمال التلفزيونية والإذاعية على ان نفرق بين النشاط الخدمى والنشاط الاستثمارى، لأن نشرة الأخبار تختلف تماما عن انتاج مسلسل او إنشاء قناة صحية او تعليمية او ثقافية لأن لكل نشاط مجاله ومسئولياته .
خامسا : انه لا يمكن ان نعالج قضية الإعلام المصرى كقضية مالية فقط تتمثل فى حجم الديون والإلتزامات والعمالة المكدسة ولكن الأمر يتطلب نظرة متكاملة الجوانب حول هذا الجهاز الخطير الذى تركناه للمشاكل والأزمات والإرتجال وغياب الرؤى حتى وصل الى هذه الحالة من التسيب.. ان الحل لن يكون ببيع اصول هذا الجهاز سواء كانت ما يملك من الأراضى الخالية، وهو لا يملكها، او حتى من منشآته وهى تتعلق بدوره ومسئولياته فى إطار منظومة الأمن القومى المصرى .. ماذا يبقى لهذا الجهاز إذا تم بيع اصوله ومنشآته خاصة انها ليست قادرة على ان تضعه على المسار الصحيح ..
فى ظل هذا الحجم من الدين الذى يتراكم كل ساعة وليس كل يوم وفى ظل مطالب واحتياجات 43 الف موظف .. وفى ظل تطور رهيب فى اساليب البث والإرسال يجب ملاحقته طبقا لظروف العصر يصبح التفكير فى بيع الأصول قضية خاسرة لجميع الأطراف .. ان بنك الإستثمار يريد امواله التى تكدست، والحكومة تبحث عن وسيلة لتخفيف الأعباء المفروضة عليها وجهاز الإعلام يعيش حالة من الترهل افقدته القدرة على المنافسة مع قنوات فضائية خاصة تبحث فقط عن الربح دون ان تكون عليها اى مسئوليات اخرى.
ومن هنا فإن منظومة الإعلام المصرى لا بد ان تناقش من كل جوانبها ماليا وإداريا وفنيا .. هنا يتضح امامنا ان البيع ليس هو الحل ولن يكون، وان التكدس البشرى لا مجال لمواجهته إلا بإعادة التأهيل واستغلال الخبرات البشرية المعطلة .. وبعد ذلك لابد من إعادة النظر فى منظومة الإعلام المصرى بكل جوانبها دورا وفكرا وانتاجا ومسئولية ..
> ان هذا يدفع بنا الى الحديث عن هذا الفكر الذى مازال يسيطر على سلطة القرار فى الدولة، ان الحل دائما مازال يتجسد فى قضية الأراضى وهى التى افسدت كل تجاربنا السابقة فى التنمية حين تحولت الدولة الى سمسار يتاجر فى الأراضى فكانت كوارث التوزيع العشوائى لمساحات مذهلة من الأراضى على عدد محدود من الأشخاص فكانت المنتجعات وتجارة الشقق والمقاولات .. ان هذا النوع من الإستثمار شئ ضرورى ولكن لا يمكن ان يقوم اقتصاد وطن على تجارة الأراضى ..
ان الدولة يجب ان تتخلص تدريجيا من هذا الشبح فمازالت مؤسسات كثيرة فى الدولة تعمل بهذا الإسلوب بل ان كثيرا من المستثمرين القادمين من الخارج تتجه عيونهم عادة الى الأراضى وبها ومنها يحصلون على القروض من البنوك بضمانها او تحت وصايتها .
ان معظم مؤسسات الدولة المصرية مدينة للبنوك والضرائب وبنك الإستثمار الوطنى ولا يعقل ان يكون الحل ان تبيع هذه المؤسسات اصولها حتى تسدد الديون ان الحل هو ان تعمل هذه المؤسسات وتنتج وتشارك فى تنمية الإقتصاد القومى اما ان تفكر فى بيع الأصول فهذا خطأ فادح ومخاطرة جسيمة .
ان المؤسسات الصحفية عليها ديون كثيرة فهل تبيع اصولها من المبانى والمعدات والمطابع ام تطور انشطتها وتبحث عن مصادر دخل تتجاوز بها محنتها .. يضاف لذلك ان قضية العمالة الزائدة لابد ان تجد لها الحكومة حلا فى فتح مجالات للتدريب والتأهيل والخبرات خاصة ان ملايين الشباب المعينين فى مؤسسات الدولة بلا عمل يمثلون عبئا على الإقتصاد المصرى بكل قطاعاته.
اننى اتمنى ان يأتى اليوم الذى تتراجع فيه تجارة الأراضى الى آخر قائمة الإستثمار فى مصر فقد افسدت علينا اشياء كثيرة حين اهدرت قيمة العمل والنجاح والإنتاج واصبح حلم كل مواطن ان يحصل على قطعة ارض يبيعها او يتاجر فيها دون عمل او جهد، لقد فتحت ابوابا كثيرة للتحايل وجعلت حياة الأجيال الجديدة تتجسد فى حلم واحد وصفقة سريعة وكانت النتيجة هذه الفوارق الإجتماعية الرهيبة التى غيرت تماما الواقع الإجتماعى المصرى.
أعود لقضية الإعلام .. إعلام الدولة وهو ركن اساسى فى منظومة الأمن القومى المصرى وهو يحتاج الى خطة متكاملة الجوانب فقد وصل الى اسوأ حالاته دورا وتمويلا ورسالة واصبح الأن فى مفترق الطرق اما ان يقوم وينهض ويتجاوز مشاكله او يسقط امام منافسة غير شريفة من الإعلام الخاص بكل وسائله واخطائه.
> ولابد ان نعترف بأن الدولة اخطأت حين الغت منصب وزير الإعلام فى الحكومة فقد ترك ذلك فراغا رهيبا وفتح ابوابا كثيرة للتخبط والعشوائية، إن الحل ليس البيع او التخلص من الأصول الحل يحتاج الى مشروع متكامل لإنقاذ هذا الجهاز العريق فى ظل منظومة من العمل والإنتاج والإبداع اما ان نعود الى خطايانا القديمة وتتحول الدولة الى سمسار اراضى فالسمسرة صنعت لنا عصابة من المنتفعين فى العهد البائد ولم بأن تبنى لنا وطنا .
..ويبقى الشعر
بُعْدى وَبُعْدٌكِ لـَيْس فِى إمْكـَاني
فأنـَا أمُوتُ إذا ابْـتـَعَـدْت ثـَوَاني
وأنـَا رَمَادٌ حَائر فِى صَمْـتِهِ
فإذا رَجَعْتِ يَعُودُ كـَالبُركان ِ
وَأنـَا زَمَانٌ ضَائِعٌ فى حُزْنِهِ
فإذا ابْـتـَسَمْتِ يَرَى الوُجُودَ أغـَانِي
وَأنـَا غـَمَامٌ هَائِمٌ فِى سِرِّهِ
وَسَحَابَة ٌ كـَفـَّتْ عَن ِ الدَّورَان ِ
وأنـَا نـَهَارٌ ضَللتـْهُ نـُجُومُهُ
صُبْحٌ وَليْـلٌ كـَيفْ يَجْتمِعَان ِ
وَأنـَا أمَامَ النـَّاس لـَحْنٌ صَاخِبٌ
وَأمَامَ حُزْنِى أشْتـَكِـى وَأعَاني
وَأنَا أغِيبُ عَن ِ الوُجُودِ إذا الـْتـَقـَي
شـَوْقِى وشَوْقـُكِ فِى عِنـَاق حَان ِ
أنا لا أرَاكِ دَقيقـَة ً ألـْهُو بـِهَا
أوْ لـَحْظـَة ًحَيرَى بلا عُنوَان ِ
أنـَا لا أرَاكِ قـَصِيدَة ًمِنْ سِحْرهَا
سَكـَرَ الزَّمَانُ وأطـْرَبَتـْهُ مَعَان ِ
أوْ مَوْجَة ً أغـْفـُو قـَليلا ًعِنـْدَهَا
فـَإذا انتـَشَتْ هَرَبَتْ إلـَى الشُّطـْان ِ
أوْ رَشْفـَة ًمِن كـَأس ِ عُمْر ٍ هَاربٍ
يَا وَيْحَ قـَلبـِى مِنْ زَمان ٍ فان ِ
هلْ أسْتعيدُ لدَيـْكِ كلَّ دقيقـةٍ
سرقتْ صبايَ وأخمدتْ نيرَانِي؟
مَنْ يُرْجعُ الطـَّيْرَ الغريبَ لروضةٍ
نسيتْ عبيرَ الزِّهْر والأغـْصان ِ
عُمْرٌ توارَى عانقتهُ دُمُوعُنا
عَبَرتْ عليهِ مواكبُ الأحْزان ِ
وَتـَوَسَّدتْ أشواقنا أيَّامَهُ
وتلألأتْ مِن شَدْوه ألحَانِـي
تبقينَ سرًّا فى الحَيَاة وفرْحَة
أسْكنتهَا قلـْبى ودفْء حَنـانـي
أبْقيكِ فى صَمْتِ الخَريفَ سحابَة ً
كمْ عطـَّرَتْ بأريجهَا وجْدَانـي
عُمْرى وعُمْرُك قصة ٌ منقوشـة ٌ
فوْقَ القلوبِ بأجْمَل الالوَان ِ
كمْ عشتُ قبلكِ ألفَ حلـْم ٍ زائفٍ
كمْ كبَّـلتنى بالـْخدَاع أمَانِـي
أنا لا ألـُومُ العُمْرَ حينَ تبلدتْ
أيَّامُهُ سَأمًا عَلى الجُـدْران ِ
لكنْ ألومُ الدهْرَ كيفَ تكسَّرَتْ
فى راحتيْهِ أزاهرُ البُسْتان ِ
يوْمًا حَسبْتُ بأنَّ آخرَ عهدنا
بالـُحبِّ لحنٌ عابرٌ أشجانِي
وَالآنَ عُدْتُ كأنَّ لحْنِى ما ابْـتدَا
وكأنـَّنـَا فى عُمْرنـَا طفلان ِ
قدْ تسْألينَ الآنَ : ما أقـْصَى المُنَى ؟
قلـْبـِى وقلبُـكِ حِينَ يلتقيان ِ
إنـِّى أعَاتبُ فيكِ عُمرى كلهُ
يَا ليْتَ عُمْرى كانَ فى إمْكـَانِى.
قصيدة اعاتب فيك عمرى سنة 2000