فاروق جويدة
لم استطع تصنيف ما يحدث في رابعة العدوية وهل هو نشاط سياسي مشروع ام دعوة دينية لوجه الله ام انه محاولة لإيجاد المزيد من الفوضي في الشارع المصري ام انه عفريت حضره الإخوان المسلمون واخشي الا تكون لديهم القدرة علي ان يصرفوه.
إن رابعة العدوية الآن مشروع دويلة صغيرة حيث توافرت فيها كل مقومات الدولة ابتداء بالمسرح الكبير والفضائيات ووزارة للتموين, ويعلم الله هل هناك قوات لحفظ الأمن والحماية.. في رابعة العدوية تجد كل تناقضات المجتمع المصري الفقراء الذين جاءوا من اعماق الريف ومعهم اثرياء جماعة الإخوان المسلمون الذين يدفعون الرواتب ويشترون الطعام ويوفرون الخيام وكل وسائل العبادة والتسلية ابتداء بوزارة للثقافة وانتهاء بصلاة التراويح.
ان الإخوان يحاولون من خلال هذه التجربة الصغيرة اكتساب خبرات في الإدارة والحشد والخدمات ولا شك انها فرصة جديدة ربما يتجاوزون بها محنة الفشل في إدارة شئون مصر طوال عام كامل.
قد يري البعض ان جمهورية رابعة العدوية حدث بسيط لن يتجاوز حدود منطقة صغيرة او حي من الأحياء, ولكن الغريب حقا ان هذا الحي الصغير استطاع ان يجذب اهتمام اطراف كثيرة دولية ومحلية وربما اصبح مزارا ووجدنا شاشات الفضائيات تغطي الأحداث علي امتداد يوم كامل ابتداء بقناة الجزيرة والمرابطين فيها وانتهاء بالإذاعة الإسرائيلية التي لا احد يعرف كيف تبث ارسالها من الحي العتيق في قلب القاهرة.. المؤسف الآن ان رابعة العدوية اختصرت المشهد المصري كله في عدة آلاف يعتصمون وجاءت الوفود الخارجية من اقصي الغرب الي اقصي الشرق تتابع ما يجري وما يدور والجميع في انتظار ما تأتي به الأحداث.. وإذا كان هذا هو الجزء الواضح من المشهد إلا ان هناك مشاهد اخري ينبغي ان نتوقف عندها وإذا كانت رابعة العدوية هي التي تتصدر المشهد الأن إلا انها فتحت ابوابا كثيرة لتفاصيل اخطر واهم:
< لا بد ان نتوقف عند هذا العدد الهائل من الوفود الأجنبية التي جاءت الي مصر خلال الأسابيع الأخيرة وبقدر ما يعكس ذلك من اهمية مصر وما يجري فيها إلا انه يؤكد حالة الفراغ الداخلي في الدولة المصرية امام عجز قواها السياسية من النخب المتعددة الأفكار والألوان عن مواجهة الأزمات الحقيقية للمجتمع المصري.. ان هذا العجز هو الذي اغري القوي الخارجية ان تتدخل الي ابعد مدي في الشأن المصري في ادق تفاصيله ومكوناته وهي العلاقات بين ابناء الشعب الواحد, وقد وصل بنا العجز ان تجد بيننا من يستنجد بالقوي الخارجية حتي يحمي المصريون بعضهم من بعض.. والغريب في الأمر ان تسمح السلطات المصرية بهذه الدرجة من الاقتحام والتدخل وانتهاك السيادة المصرية في اعلي درجاتها واخص خصوصياتها..
لقد تنقل المسئولون الأجانب بين كواليس الإدارة المصرية يقدمون النصائح ولا اريد ان اتجاوز واقول الأوامر والنخبة المصرية العاجزة والمتناحرة تتلفت حول نفسها في ذهول.. لااعتقد انه من السهل ان يزور مسئول اجنبي في اي دولة سجينا يخضع للمساءلة القضائية او الحساب..ولا اعتقد ان هذا العدد من المسئولين الأجانب قد اجتمع في عاصمة كبري او صغري لمناقشة احوال شعبها وما يعيشه من ازمات.. كانت مصر دائما قادرة علي ان تتجاوز مشاكلها وكانت لديها واحدة من اعرق واقدم النخب في العالم وحين تبدو الآن امام العالم بهذه الصورة الهزلية فهذه إدانة لكل مؤسساتها الرسمية والشعبية.إذا كنا عاجزين عن إدارة شئون وطننا وحمايته والدفاع عنه فإن الموت اهون كثيرا وعلينا ان نحفر قبورنا بأيدينا.
< كان من حق الإخوان المسلمون ان يغضبوا لخلع الدكتور مرسي وان يتظاهروا ويثوروا وان تكون لهم مواقفهم السياسية الرافضة لما حدث.. ولكن لم يكن احد يتصور ان يراهنوا علي خراب مصر وان يجمعوا بسطاء الشعب والفقراء ويقدموهم قربانا لحلم سياسي خادع..
كان الأولي بالإخوان ان يعترفوا اولا بالفشل وهو حقيقة وثانيا بالهزيمة وهم اول اسبابها.. ان جمع المواطنين الغلابة في الشوارع بالأطعمة والأموال ليس عملا سياسيا نبيلا حتي وإن كان مشروعا وهو عمل اخلاقي مشبوه وسلوك ديني يتنافي مع كل ما جاءت به الأديان.. إذا كان الإخوان قد وصلوا الي السلطة بهذا الاسلوب فعليهم ان يتطهروا مما فعلوا لأنهم بهذه الحشود الفقيرة يخلطون بين اهداف سياسية مغرضة ودعوات دينية تفتقد الصدق والشفافية يجب ان يكون الصراع بين القوي السياسية علي فكر الناس وليس علي حاجة بطونهم وفقرهم الشديد.
< لا أدري في اي بلاد الدنيا يحدث ما نراه الآن في بلادنا من اتصالات مريبة وغريبة بين الدول الأجنبية وممثليها والنشطاء السياسيين ورموز المجتمع المدني والقيادات الحزبية, وهذه العلاقات الغريبة تبدأ بالتمويل وتنتهي بالوصاية.. ان هذا يمثل اختراقا لهيبة الدولة التي تسمح بهذه العلاقات المشبوهة هل من حق اي مواطن ان يتواصل مع السفارات والوفود الأجنبية الزائرة ويعقد اللقاءات ويقدم المعلومات والاستنتاجات.. وهل من حق اي مسئول اجنبي زائر ان يتجول بين القوي السياسية ويقدم لها الدعم والأموال.. ومن أين جاءت كل هذه الرموز وكل هؤلاء النشطاء السياسيين وقادة المجتمع المدني.. ان لكل مليونية خرجت في مصر في العامين الماضيين قادة وزعماء وهم يتغيرون كل اسبوع حيث تظهر اسماء جديدة مع كل مظاهرة او مليونية, اننا نقدر طموح شبابنا واحلامه ورغبته في الإصلاح وفيهم نماذج رائعة خلقا وسلوكا ولكن الطالح اساء للصالح.. والسؤال: كيف سمحت اجهزة الأمن القومي بهذه التجاوزات وإذا كانت قد تغاضت عن قضايا الفكر والرأي فماذا تقول عن قضايا التمويل..
< هناك نيران صديقة بدأت الأن بين رفاق الأمس من رموز التيارات الدينية وإذا كانت بوادرها قد ظهرت في صورة خلاف في الرأي بين الإخوان والسلفيين في الأيام الأخيرة من حكم الإخوان فقد ارتفعت درجة حرارتها وتحولت الي قصف واضح بين رموز هذه التيارات حيث بدأ الهجوم والتشكيك والإدانة..
إذا كانت هذه التيارات قد وصلت للناس علي اجنحة الدين وسماحته فمن العار ان تغرق في مستنقع السياسة وتمارس اساليبها الرخيصة في الشتائم والبذاءات والإدانات.
علي شاشات التليفزيون والنت الآن تدور معارك طاحنة بين قيادات التيارات الدينية الذين تخلوا عن ابسط قيم الدعوة وغرقوا تماما في سراديب السياسة. ان سقوط هذه الرموز علي المستوي الديني والأخلاقي يمثل منعطفا خطيرا يؤكد ان السياسة افسدت علينا ديننا ودنيانا.
< من الخطأ الجسيم ان تترك الدولة زمام كل الأشياء للغة الحشود.. اننا نقدر اهمية الشارع ودوره وقيمته وايضا شرعيته ولكن حين تتسم السلوكيات بالغوغائية وحين يصبح التظاهر وسيلة للدمار والفوضي وحين تتحول الاعتصامات الي وسيلة للتخريب او الموت فإن الدولة تفقد هيبتها وتتحول الي شبح هزيل, ومنذ قامت ثورة يناير تحول الشارع المصري الي بركان من الغضب الصاخب, ان صحوة هذا الشارع تمثل انتصارا كبيرا لإرادة الشعب ولكنها حين تفتقد الإحساس بالمسئولية وتسير بلا هدي فإنها تتحول الي غابة مخيفة وتترك نفسها للمغامرين بأقدار الشعوب..
اصبحت الآن اخاف كثيرا من سطوة الشارع المصري علي مؤسسات الدولة بكل درجاتها واخشي ان نجد انفسنا يوما بلا دولة.. ان اكبر دليل علي ذلك ما حدث في رابعة العدوية لأن الذي نراه هناك ليس صراعا بين الأفكار والمبادئ ولكنه وصاية غير مشروعة يساندها الفقر والمال.. لا اتجاوز إذا قلت ان مصر الأن احوج ما تكون للغة الحسم والانضباط وهذا لا يعني ان نفرط في الإنجازات التي حققتها الثورة وعيا ودورا وتأثيرا ولكن فوضي الشوارع لن تبني وطنا وغوغائية السلوك والمواقف تتعارض تماما مع ابسط قواعد الحريات ومانراه في الشارع المصري تجاوز منذ زمن بعيد مناطق الحريات ودخل مناطق الفوضي
< اتمني ان يأتي اليوم الذي يدرك فيه المصريون جميعا ان ما يجري في بلادهم الأن نشاط سياسي بعضه عاقل وبعضه مشبوه وان الدين الحقيقي ابعد ما يكون عن الساحة المصرية في هذه الأيام.. منذ قامت ثورة يناير والمد الديني يكتسح كل شئ امامه وكأنه الطوفان وبعد تجربة قصيرة ومريرة ظهرت حقائق الأشياء وادركنا ان المستنقع السياسي قد اجتاح الجميع وللأسف الشديد سقط فيه من سقط ونجا منه من نجا وقد جاء الوقت ليعرف الناس الحقيقة وان ما نراه الأن معارك سياسية حتي وان اخفي البعض حقيقة دوره ونشاطه.. لقد تاجر الجميع باسم الدين حتي وصلت الصراعات والمعارك الدينية الي ابناء الأسرة الواحدة وجاء الوقت لكي يحافظ كل فرد علي دينه من المزيفين وعلي اسرته من المغامرين وتجار الفضيلة
لا يستطيع الإنسان ابدا ان يفصل بين الغاية والوسيلة او يفصل القضية عن الموقف وحين يشجع البعض غوغائية السلوك وفوضي الشارع تحت ستار الدين فإننا نفتح الف طريق للخراب, وإذا كان لدينا شيء من العقل والحكمة يجب ان ننظر تحت اقدامنا قبل ان تنفجر الألغام فينا ونجد انفسنا وسط النيران..
في بعض الأحيان نتجاوز في طموحاتنا واحلامنا ونبدأ رحلتنا مع المغامرة وقد يصل بنا الشطط الي ان نستحضر عفريتا قد يكون افكارا او احلاما او اوهاما او حشودا وتكبر الحشود حولنا حتي تسد ضوء الشمس فلا نري شيئا وهذا ما يحدث الأن في رابعة العدوية, ان الإخوان احضروا العفريت وليتهم يصرفونه
ان الشيء المؤكد ان عفاريت السياسة تتعارض تماما مع مقدسات الأديان.
نقلا عن جريدة "الاهرام"