فاروق جويدة
يجب إطفاء الحريق قبل حصر الخسائر.. ويجب تشخيص المرض قبل بدء العلاج ولهذا يجب ان يهدأ المصريون قليلا قبل الحديث عن المصالحة الوطنية.. لا اعتقد ان الشارع المصري تعرض لعمليات شحن وتخريب كما حدث منذ قامت ثورة يناير وحتي الآن فقد عبثت كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية بعقول المصريين ابتداء بالإعلام وانتهاء بالأموال..
وليس من الحكمة الآن ان نطرح الحلول ونحن مازلنا في قلب الأزمة او ان نتحدث عن مصالحات كلامية وفي الشارع روائح الدماء.. ولهذا فإن نقطة البداية ان تتوقف جميع الأطراف وتراجع مع نفسها مسلسل الأخطاء الذي وقعنا فيه جميعا, وللأسف الشديد انه لا يوجد طرف واحد او فصيل واحد في مصر لم يخطئ ولا يوجد تيار واحد لم يشارك في هذه الكارثة التي وصلت بنا الي هذه القطيعة وهذا الانقسام الذي دخل بنا الي تقسيمات غريبة ما بين الأعداء والكفار والمؤمنين وغير المؤمنين, ونسينا ان هناك وطنا يتمزق بين ايدينا.
نقطة البداية ان تراجع اطراف اللعبة السياسية مواقفها واخطاءها وان تكون لديها الشفافية والمصداقية ان تعترف بذلك..
اولا: ان اقدار الشعوب ومستقبل الأوطان لا يمكن ان تحكمه الحشود البشرية في الشوارع, وإذا كنا في بعض الأحيان نستخدم هذه الحشود لتأكيد موقف او دعم اتجاه إلا انه لا يمكن لها ان تتحول الي اساليب ضغط علي فئات المجتمع المختلفة.. إن استخدام الحشود في غير مكانها يتحول مع الوقت الي مظهر من مظاهر التخلف والغوغائية.. وللأسف الشديد اننا عانينا زمنا طويلا لعنة الحشود في ازمنة الحزب الواحد.. وفي تجربتنا القصيرة مع التعددية الحزبية.. لقد سرق الإخوان المسلمون ثورة يناير بالحشود لأنهم اول من ابتدع قصة المليونيات وقد سقطوا بنفس الطريقة حينما خرج الشعب كله يرفض وصاية تيار سياسي واحد مهما كانت حشوده.. أخطأ الإخوان حينما تصوروا ان الجماعة يمكن ان تغني عن الشعب وان الحشود يمكن ان تكون صاحبة قرار ولم يدركوا ان الشعوب قادرة في اية لحظة ان تغير مسار كل شيء.. حين وصل الإخوان الي السلطة لم يعترفوا بأن المسئولية اكبر من قدراتهم الإنسانية ودخلوا في حالة من الثقة بالنفس حملتهم بعيدا عن هموم الناس والواقع الذي يعيشون فيه.. وكان من الخطأ ان يراهن الإخوان علي حشودهم البشرية وهي مهما كان تعدادها لا تتجاوز سكان مدينة من آلاف المدن القابعة علي ضفاف النيل
ثانيا: كان التقسيم الديني للمجتمع المصري اخطر النتائج السيئة التي حدثت بعد ثورة يناير.. ان من يشاهد الآن حالة الإنقسام بين المصريين يتصور اننا نواجه صراعا بين اتباع محمد عليه الصلاة والسلام وكفار قريش, وللأسف الشديد ان هذه اللعبة السياسية التي فرقت المصريين افتقدت الدين والأخلاق معا.. فلم يكن الإخوان المسلمون اكثر تدينا من بقية الشعب المصري ومعظم قياداتهم اتخذت من الدين وسيلة فلا هم درسوا الدين علي حقيقته ولا هم حافظوا علي طهارة منابر الدعوة فقد اختلطت حتي النخاع بمستنقع العمل السياسي بكل خطاياه واخطائه..
من اكبر الخطايا التي حدثت بعد ثورة يناير السماح بإنشاء احزاب دينية في مصر, وكان النموذج الأسوأ هو إنشاء حزب الحرية والعدالة مع بقاء جماعة الإخوان المسلمين كجمعية دينية وهذا التداخل بين الحزب والجماعة والذي اجتاح بعد ذلك مؤسسة الحكم في الدولة لم يفرق بين ما هو ديني في نشاط الجماعة وما هو سياسي في نشاط الحزب وما هو وطني في إدارة شئون الدولة في مؤسسة الرئاسة.. وهنا ينبغي ان يتم إلغاء جميع الأحزاب الدينية ويعاد تشكيلها بحيث تكون احزابا لكل المصريين وليس لفصيل ديني واحد.
ثالثا: ان فشل تجربة الإخوان في الحكم يقابله وبنفس الدرجة فشل النخبة في المعارضة.. لم يكن عدم التوفيق من نصيب الإخوان وحدهم ولكن النخبة المصرية كانت من الأسباب الرئيسية في سقوط التجربة الأولي لمصر مع الديمقراطية.. إذا كان الإخوان قد بالغوا في الاإعتماد علي الحشود البشرية والتهديد بها فإن النخبة فشلت في جمع هذه الحشود امام غيابها الواضح في الشارع المصري.. وكان انقسام النخبة علي نفسها من الأمراض الخطيرة التي جعلت الشارع لا يثق فيها كثيرا.. وقبل هذا كله فإن الأحلام الشخصية لعدد من رموز هذه النخبة كانت عبئا ثقيلا علي تيار وطني مؤثر لم يستطع تحقيق اهداف شعبه امام انقسامات وخلافات وغياب واضح عن قضايا الناس الحقيقية
رابعا: لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية امام هذا الانقسام الرهيب بين مؤسسات الدولة ولهذا لا بد ان تعود كل مؤسسة الي دورها ومسئولياتها ومواقعها بعيدا عن المستنقع السياسي.. وهنا لا اتصور ان تبقي مؤسسة القضاء غارقة في الصراعات والمعارك السياسية.. يجب ان يعود للقضاء قدسيته وجلاله ومكانته في ضمير الناس.. وهنا ايضا لا يمكن ان تبقي الزعامات الإعلامية تعبث في الشارع المصري وتمارس كل الوان الدجل والتحايل بدوافع كثيرة, يجب ان تكون لها ضوابطها..
ان الإعلام يمكن ان يمارس دورا كبيرا في نشر الوعي والفكر والاإستنارة ولكن من الممكن ايضا ان يتحول الي ابواق لتصفية الحسابات ونشر الضغائن والفتن, وعلينا ان نختار اي الطريقين نريد, لا اتصور ان تعود القنوات الدينية بنفس الحشود التي اعلنت الحرب الدينية علي بقية المجتمع وتحولت المعارك الي مؤمنين وكفار.. ولا اتصور ان يبقي الإعلام المصري منصات لإطلاق صواريخ الكراهية والرفض وان يتحول الي ادوات للتصفيات السياسية والفكرية بل والجسدية.. في الإعلام المصري جرائم قتل معنوية ينبغي ان تخضع للحساب
خامسا: لقد اشفقت كثيرا مع ملايين المصريين في هذه الحشود التي تجمعت في الميادين والشوارع ما بين مؤيدين ومعارضين.. هذه الحشود التي تحركها مجموعة قليلة جدا من الأشخاص يحملونهم في اي اتجاه وبينهم الأمهات والبنات والأطفال والعجائز.. ما ذنب هؤلاء ان نعصف بهم, من هنا ومن هناك لقد اكلت الأمية عقولهم ودمر الفقر ما بقي من اجسادهم وهم يترنحون في الشوارع حيث لاعمل ولا مال ولا امل ووجدوا من يحملهم ويلقيهم في الشوارع رفضا او قبولا.. ان هؤلاء امانة في اعناقنا وسوف نحاسب يوما امام الله حين يسألنا لماذا تركتم الجهل يعصف بعقولهم وتركتم الفقر يستبيح ايامهم.. كان ينبغي ان تتوافر لهم كل اساليب الحياة الكريمة.. لا ادري الي متي سوف نستغل هذه الملايين المعدمة التي لم تجد حتي الآن حكومة ترحمها او نظاما يحميها.. وسط هؤلاء الذين يطوفون في الشوارع ثروة مصر الحقيقية وهم شبابها الذي لم نعرف قيمته.. إن هذه الملايين من الشباب الذين تلقيهم الشوارع الي الشوارع والميادين الي الميادين هم المستقبل الضائع والحلم المستحيل وحرام ان نتركهم لهذا الضياع ان الرؤوس التي تتاجر بأجساد واحلام وحياة هؤلاء الشباب ترتكب جريمة بشعة في حق مصر المستقبل والمصير.
سادسا: هناك جيل ينبغي ان ينسحب من الساحة تماما وان يجلس مع نفسه ويراجع اخطاءه وخطاياه.. وهذا الجيل ينتشر في كل ارجاء الكنانة وقد مارس كل ألوان الدجل والتحايل وعليه ان يستريح.. لا اريد هنا ان اذكر بعض الأسماء ولكن بين صفوف الإخوان المسلمين عدد من الأشخاص كانوا من الأسباب الرئيسية لفشل تجربة الإخوان في الحكم وهم يعرفون انفسهم فقد كانوا عبئا ثقيلا علي الإخوان والسلطة والوطن.. وفي الإعلام المصري نماذج كريهة تاجرت وافسدت وباعت ولعبت علي كل الحبال..وفي مؤسسات الدولة بلا استثناء اركان فساد جاء الوقت لإزالتها ولا اقول إصلاحها لأن الإصلاح امر مستحيل.. وقد جاء الوقت لكي تجدد مصر دماء اجيالها فهناك دماء كثيرة فاسدة في مواقفها وانتماءاتها وادوارها المشبوهة في التلاعب بمستقبل هذا الشعب وجاء الوقت لإبعاد كل هذه الأشباح.
سابعا: إذا كانت لعنة الفتن والانقسامات قد اطاحت بكل طوائف الشعب المصري وكل تياراته السياسية وقسمتنا الي شيع واحزاب فينبغي ان تبقي هناك بعض المناطق التي لا نختلف عليها ونحرص علي حمايتها..ان البعض يلوم الجيش المصري لأنه تحرك اخيرا ووقف يحمي آخر قلاع الدولة ومؤسساتها امام فتنة كادت ان تعصف بكل شيء.. ولا اعتقد انني كنت يوما مع مبدأ الانقلابات العسكرية او حكم العسكريين ولم تكن لي مواقف ضد الحريات فقد سخرت قلمي طوال عمري مدافعا عن حرية الإنسان المصري ولكن ما حدث في مصر كان ضرورة وطنية ان يتدخل الجيش ليحمي المصريين ويحمي الشعب من شطط الحشود ودعوات التكفير واستخدام العنف..
في تقديري ان ما فعله الجيش كان مسئولية وطنية تجاه شعبه وقد حذرت اكثر من مرة ان الصراع بين القوي السياسية في مصر قد وصل الي طريق مسدود وسوف يدفع الجيش دفعا لإتخاذ موقف لحماية الوطن وهذا ما حدث..وإذا كان البعض قد غضب مما حدث والقي المسئولية كاملة علي الجيش فإن علي كل فصيل ان يحاسب نفسه اولا قبل ان يلوم الآخرين..علي الإخوان ان يراجعوا اسباب فشلهم في الحكم..وعلي النخبة ان تلوم نفسها لفشلها في الوصول الي الناس وتشكيل معارضة حقيقية..وعلي الجميع ان يقدموا الشكر والعرفان لجيش مصر الذي أنقذ البلد من كارثة.
ثامنا: إن دعوة الفريق اول عبد الفتاح السيسي للمصريين للخروج اليوم الي الشوارع والميادين لتفويض الجيش والشرطة لمواجهة العنف والإرهاب تأكيد لموقف الجيش في حماية أمن مصر واستقرارها, وعلي المصريين ان يدركوا ان الإرهاب بدأ يطل برأسه مرة اخري ليعيد لنا ذكرياته المريرة وايامه السوداء وعليهم الآن ان يقفوا بصلابة وراء الجيش والشرطة لحماية هذا الوطن من مخاطر كثيرة داخلية وخارجية تهدد امنه واستقراره
فلتذهب السياسة الي الجحيم فلا شئ اهم من امن مصر.
.. ويبقي الشعر
أتيتك نهرا حزين الضفاف
فلا ماء عندي.. ولا سنبله
فلا تسألي الروض كيف انتهيت..
ولا تسألي النهر من أهمله
أنا زهرة من ربيع قديم..
أحب الجمال.. وكم ظلله
حقائب عمري بقايا سراب
وأطلال حلمي بها مهمله
وجوه علي العين مرت سريعا
فمن خان قلبي.. ومن دلله
ولا تسألي الشعر.. من كان قبلي
ومن في رحاب الهوي رتله
أنا عابد في رحاب الجمال
رأي في عيونك ما أذهله
يقولون في القتل ذنب كبير
وقتل المحبين.. من حلله ؟!
أناديك كالضوء خلف الغيوم
وأسأل قلبك من بدله ؟
وأصبحت كالنهر طيفا عجوزا
زمان من القهر قد أثقله
فهذا الحريق الذي في يديك
يثير شجوني.. فمن أشعله ؟
وهذا الشموخ الذي كان يوما
يضيء سماءك.. من أسدله؟
أعيدي الربيع لهذي الضفاف
وقومي من اليأس..ما أطوله
فخير الخلائق شعب عنيد
إذا ما ابتدا حلمه.. أكمله
حزين غنائي فهل تسمعين
بكاء الطيور علي المقصله ؟
أنا صرخة من زمان عريق
غدت في عيون الوري مهزله
أنا طائر من بقايا النسور
سلام الحمائم.. قد كبله
أنا جذوة.. من بقايا حريق
وبستان ورد.. به قنبله
فلا تسألي الفجر عن قاتليه
وعن سارقيه.. ومن أجله
ولا تسألي النهر عن عاشقيه
وعن بائعيه.. وما أمله
تعالي أحبك.. ما عاد عندي
سوي الحب..والموت..والأسئلة
زمان دميم.. أذل الخيول
فما كان مني.. وما كنت له
خيول تعرت.. فصارت نعاجا
فمن روج القبح.. من جمله ؟
ومن علم الخيل أن النباح
وراء المرابين.. ما أجمله ؟
هنا كان بالأمس صوت الخيول
علي كل باغ.. له جلجله
فكم أسقط الحق عرش الطغاة
وكم واجه الزيف.. كم زلزله
فكيف انتهي المجد للباكيات
ومن أخرس الحق..من ضلله؟
ومن قال إن البكا كالصهيل
وعدو الفوارس كالهروله ؟
سلام علي كل نسر جسور
يري في سماء العلا منزله
"قصيدة الخيول لا تعرف النباح سنة 2000"
نقلاً عن جريدة " الأهرام "