فاروق جويدة
من يشاهد ما يجري في القاهرة بين بضعة الاف من البشر يتصور اننا علي ابواب حرب اهلية إذا لم نكن قد بدأناها بالفعل..
بضعة آلاف يحتكرون الشارع والفضائيات والمناصب الكبري في الدولة وهناك عشرات الملايين مازالوا في حقولهم ومصانعهم ومدارسهم يعملون..وللاسف الشديد ان كل فريق يري الصورة من زاوية واحدة ولم يعد هناك أحد يملك القدرة علي ان يري الأشياء خارج حدود ذاته.. الذين وصلوا إلي السلطة اكتفوا بالغنائم.. والذين خرجوا من السباق يبحثون عن فرص جديدة.. والشباب الذي مات لا يجد حتي من يترحم عليه.. وتوقفت مسيرة الوطن تماما امام حالة من العجز لم تشهدها مصر في تاريخها الحديث.. السلطة تدعي انها لم تأخذ فرصتها في العمل ويكون السؤال ولماذا لا تعملون.. والقوي الأخري تريد التغيير دون ان تقدم البدائل, لأن البديل ليس أفضل كثيرا من الذين يجلسون علي مقاعد السلطة.. والشعب المغلوب علي امره ينظر من بعيد في ساعة انتظار قاسية هل ينتظر المنقذ.. ام ينتظر العدل.. ام ينتظر الرحمة.. وللاسف انه حتي الآن لم يجد من يرحمه سواء في الراحلين أو القادمين
كل ما يجري الآن علي الساحة السياسية ابعد ما يكون عن مصالح المواطنين وازماتهم.. منذ قامت الثورة ورحل النظام السابق والشارع المصري تائه ما بين الاستفتاءات والإنتخابات والمظاهرات والمعارك.. لم يهدأ شئ في المحروسة طوال عامين كاملين.
وإذا نظرت إلي النتائج فسوف تكتشف ان الجميع خاسر حتي هؤلاء الذين وصلوا إلي السلطة وتصوروا انهم حققوا انجازا تاريخيا كانوا اول الخاسرين
كل التناقضات تجتمع في مصر الآن..
< الفريق الأول وهم جماعة الإخوان المسلمون شغلتهم السلطة عن حل مشاكل المواطنين ومواجهة ازمات المجتمع وبدلا من ان يحشدوا كل إمكانياتهم وقواهم للخروج من هذه الأزمات فهم يتصورون ان التكويش علي السلطة سوف يمنحهم فرصا اكبر لمواجهة هذه الأزمات رغم ان الوقت قد لا يكون في صالحهم ولا صالح غيرهم من التيارات السياسية..لقد تفرغ الإخوان للانتخابات والاستفتاءات وهم بكل تأكيد حققوا إنجازات فيها ولكن المؤكد ايضا ان هذه النجاحات ادت إلي إهمال قضايا اهم وهي المواطن المصري..ان الشعب المصري الآن لا تعنيه من قريب أو بعيد صراعات النخبة أو انتخابات البرلمان أو بقاء أو رحيل الرئيس مرسي ولكن الذي يعنيه ان يجد رغيفا وسكنا وعملا وكرامة..ان هذا الشعب علي استعداد الآن ان يقدم الولاء لمن يأخذ بيده ويخرج به من هذا النفق المظلم ولكن الإخوان شغلوا انفسهم في المعارك الجانبية وتركوا قضايا الوطن للصراعات والمعارك.
< الفريق الثاني وهم النخبة التي خرجت من لعبة الصراع دون ان تجني شيئا. هذه النخبة أخطأت لأنها لم تضع الشعب يوما في حساباتها من البداية وإذا كانت جماعة الإخوان قد فرطت في مكاسب تاريخية حققتها في الشارع في ظل النظام السابق فإن النخبة لم تكن يوما قريبة من هذا الشارع بل انها اختارت دائما ان تحتمي بالنظام أي نظام لتحقيق وجودها ومكاسبها ودورها في المجتمع وحين جاء وقت الحساب اكتشفت انها خارج اللعبة وان الجماهير كانت أكثر وعيا لحقيقة الأدوار وشواهد التاريخ.
إن معركة النخبة لم تكن يوما لحساب الشعب بعد الثورة ولكنها كانت تسعي فقط لإبعاد الإخوان وتحقيق بعض المصالح الخاصة ولم تنجح في الحالتين فلا هي نجحت في ملء الفراغ الذي تركه النظام السابق أو حتي المشاركة فيه ولا هي استطاعت ان تواجه الزحف الإخواني الذي شيده الإخوان في عشرات السنين..وكما وقف الإخوان عاجزين عن حل مشاكل المواطنين وقفت النخبة في نفس المكان عاجزة عن التواصل معهم فكانت النتيجة هي الفشل والخسارة من الجانبين النخبة والإخوان معا..
في ظل هذا التناقض والفشل بين النخبة والإخوان ظهرت نتائج كل هذا في السياق العام لإدارة شئون الدولة.
وقف الإخوان حائرين امام الأزمات وعيونهم علي المزيد من السلطة..
ووقفت النخبة حائرة امام الإخوان وسقطت معها في مستنقع الفشل الجماهيري, القوي الأولي فشلت في حل المشاكل والقوي الثانية فشلت في إيجاد صيغة للتواصل مع الشارع..
وامام مجموعة من الأزمات تكشفت قدرات الجميع واتضح لنا اننا امام مجتمع عاجز في كفاءاته وقدراته عن مواجهة واقعه الجديد..
< انقسم الشارع تماما بين قوي متصارعة وتحول الانقسام إلي ازمة ومشكلة امنية حادة اصبحت تهدد كيانه ووحدته وثوابته التاريخية العتيقة وان الفراغ الذي تركه النظام السابق كان اكبر من قدرات القوي السياسية بإختلاف توجهاتها.
< امام الانقسامات وغياب الأمن انهار الموقف الاقتصادي وتعطلت المشروعات واغلقت وحدات الإنتاج ابوابها وتوقفت الاستثمارات الخارجية والداخلية وتحولنا إلي مجتمع عاطل..وهنا زادت نسبة العجز في الميزانية وتآكل الاحتياطي النقدي وزادت طوابير البطالة وارتفع حجم الديون وزادت اسعار السلع ووجدت الدولة نفسها امام كارثة اقتصادية عاصفة.
< امام فشل الجميع في مواجهة الواقع بدأت رحلة انقسامات أخري بين التيارات السياسية..اختلف السلفيون مع الإخوان وبدأت رحلة إلقاء التهم وتحمل مسئولية الفشل وكل طرف يحاول ان ينفي مسئوليته عنها..واقترب السلفيون من الليبراليين إما عن قناعة أو مناورة وسوف تكشف الأيام ما وراء ذلك كله..وانتقلت الخلافات السرية إلي صراع علني بين الإخوان والسلفييين رغم ان الزواج بينهما لم يطل كثيرا ثم كانت الخلافات غير المعلنة بين جبهة الإنقاذ في مواقفها وحساباتها ومصالح المنتسبين إليها
< في آخر الصورة يقف فريق أخر ينظر من بعيد وهو يعيش لحظة انتصار لم يتوقعها في يوم من الأيام وهم رموز النظام السابق..إنهم الآن في احسن حالاتهم امام حالة الفشل والانقسام والمعارك والفوضي بين القوي السياسية التي اطاحت بالنظام السابق ونصبت نفسها علي قمة السلطة..
لقد خرج رموز النظام السابق من السجون وتم الإفراج عنهم جميعا بعد ان قررت محكمة النقض إعادة محاكمتهم من جديد ولم يبق وراء القضبان إلا الرئيس السابق ونجليه ووزير داخليته في انتظار احكام مشابهة.
بدأ الإخوان المسلمون حملة مفاوضات مالية مع رموز النظام السابق بعضها رسمي من خلال الحكومة وبعضها سري يقوم به عدد من رجال الأعمال من جماعة الإخوان وان كان هذا يبدو أمرا غريبا وشاذا ان يقود رجال الأعمال الإخوان عملية التفاوض في اموال الشعب في سرية تامة ودون إعلان عن شروطها واماكنها وشخوصها وكأننا ندير عزبة وليست اموال شعب منهوبة.
بدأ الاستعداد للانتخابات البرلمانية, ففي الوقت الذي تدور فيه المعارك والصراعات بين الإخوان وجبهة الإنقاذ علي الفضائيات وفي ميدان التحرير فإن معركة الإخوان الحقيقية تدور في القري والنجوع والمحافظات ولن يكون غريبا ان تشهد اتفاقات ومفاوضات مع رموز الحزب الوطني المنحل لأنها القوة الوحيدة الآن القادرة علي منافسة الإخوان في الانتخابات القادمة وربما شهدت صفقات جديدة وتنازلات بين ما كان يسمي في الماضي المحظورة والوطني المنحل..
يبدو ان الصراع بين الإخوان وجبهة الإنقاذ سوف يكون علي بقايا الحزب الوطني ومن منهما يستطيع ان يفوز بدعم ما بقي من النظام السابق..
ان الإخوان يبحثون عن اموال للخروج من المحنة الاقتصادية التي تعيشها مصر ولم يجدوا حتي الآن أحدا يمد لهم يد المساعدة داخليا وخارجيا وقد يجدون المال لدي رموز النظام السابق وهنا يمكن ان تنجح المفاوضات مع الهاربين بأموال الشعب..
ان جبهة الإنقاذ لا تملك أوراقا كثيرة يمكن ان تشجع الإخوان علي التفاوض أو التعاون معهم لأنهم لا يملكون مالا..وليست لديهم قوي شعبية مؤثرة وفي مجال الكفاءات والقدرات فإن الجميع يتساوي, وإذا كانت هناك حسابات دقيقة لمراكز القوي بكل قدراتها فإن بقايا الحزب الوطني أكثر تأثيرا من جبهة الإنقاذ خاصة بعد خروج رموزها وما تملكه من اموال ورصيد وربما تأثير في الشارع خاصة في ظل حالة إحباط يعانيها المصريون امام متاعب الحياة وامام فشل القوي السياسية في إدارة شئون مصر بعد الثورة.
ومما يزيد الأمور والأحوال ارتباكا إصرار الإخوان علي عدم تغيير الحكومة ثم قرار المحكمة الدستورية العليا بشأن قانون الانتخابات وإصرار الرئاسة علي إجراء هذه الانتخابات طبقا لما جاء في الدستور الجديد..وقبل هذا كله سلسلة من القرارات السيادية التي افتقدت الحسم والدراسة معا..وقد ظهرت مستجدات اخري علي الساحة علينا ان ننتظر نتائجها وفي مقدمتها الخلاف الذي تصاعد كثيرا بين الإخوان والسلفيين ووصل إلي درجة الاتهامات والمطالبة بالرحيل مع التشكيك في الذمم والمواقف كل هذه الأشياء سوف تحكم صورة المستقبل القريب..
ان غياب المصالحة الوطنية وفشل مشروعاتها حتي الآن ورفض اطراف اللعبة السياسية الجلوس معا والخروج بالوطن من هذا النفق المظلم سوف يؤدي إلي تراكم المشاكل والأزمات ولا احد يعرف ما هي نهاية المطاف..
هل يبقي الإخوان علي إصرارهم في جمع كل خيوط السلطة وإبعاد جميع القوي بما في ذلك حلفاء الأمس من السلفيين..ام ان الصراع سوف يتجاهل كل ما حدث بعد الثورة لتعود المواجهة مرة أخري بين الوطني والمحظورة مع خلاف بسيط ان المحظورة تحكم وان الوطني في صفوف المعارضة..وهنا يكون السؤال ولماذا قامت الثورة إذا كانت ريما قد عادت لعادتها القديمة ما بين الوطني والمحظورة.
يبقي هناك طرف آخر هو الحاضر الغائب في هذا المشهد وهو المؤسسة العسكرية التي تنفي حتي الآن عودتها إلي الساحة السياسية مرة أخري إلا إذا اقتضت الأمور ذلك خاصة ما يتعلق بأمن مصر وسلامتها وهنا سوف يفرض الواقع حسابات جديدة علي كل القوي السياسية.
. ويبقي الشعر
ما زال يركض بين أعماقي
جواد جامح..
سجنوه يوما في دروب المستحيل..
ما بين أحلام الليالي
كان يجري كل يوم ألف ميل
وتكسرت أقدامه الخضراء
وانشطرت خيوط الصبح في عينيه
واختنق الصهيل
من يومها وقوافل الأحزان تـرتـع في ربوعي
والدماء الخضر في صمت تسيل
من يومها.. والضوء يرحل عن عيوني
والنـخيل الشـامخ المقهور
في فـزع يئن.. ولا يميل..
ما زالت الأشـباح تسكر من دماء النيل
فلتخبرينـي.. كيف يأتي الصبح
والزمن الجميل..
فأنا وأنت سحابتـان تـحلقـان
علي ثـري وطن بخيل..
من أين يأتي الحلم والأشباح تـرتع حولنا
وتغـوص في دمنا
سهام البطـش.. والقـهر الطـويل
من أين يأتي الصبح
واللــيـل الكئيب عـلي نزيف عيوننـا
يهوي التـسكـع.. والرحيل
من أين يأتي الفجر
والجلاد في غـرف الصغـار
يعلم الأطفال من سيكون
منـهم قاتل ومن القتيل..
لا تسأليني الآن عن زمن جميل
أنا لا أحب الحزن
لكن كل أحزاني جراح
أرهقت قلبي العليل..
ما بين حلم خانني.. ضاعت أغاني الحب..
وانطفأت شموس العمر.. وانتحر الأصيل..
لكنه قدري بأن أحيا علي الأطـلال
أرسم في سواد الليل
قنديلا.. وفجرا شاحبا
يتوكـآن علي بقايا العمر
والجسد الهزيل
إني أحبك
كلما تاهت خـيوط الضوء عن عيني
أري فيك الدليل
إني أحبـك..
لا تكوني ليلة عذراء
نامت في ضـلـوعي..
ثم شردها الرحيل..
أني أحبـك...
لا تكـوني مثل كل النـاس
عهدا زائفـا
أو نجمة ضلت وتبحث عن سبيل
داويت أحزان القلوب
غرست في وجه الصحاري
ألف بستان ظليل
والآن جئتك خائفـا
نفس الوجوه
تعود مثل السوس
تنخر في عظام النيل..
نفـس الوجوه..
تـطل من خلف النـوافذ
تنعق الغربان.. يرتفع العويل..
نفس الوجوه
علي الموائد تأكل الجسد النـحيل..
نـفس الوجوه
تـطل فوق الشاشة السوداء
تنشر سمها..
ودماؤنـا في نشوة الأفـراح
من فمها تسيل..
نفس الوجوه..
الآن تقتحم العيون..
كأنها الكابوس في حلم ثقيل
نفس الوجوه..
تعود كالجرذان تـجري خلفنـا..
وأمامنا الجلاد.. والليل الطويل..
لا تسأليني الآن عن حلم جميل
أنا لا ألوم الصبح
إن ولــي وودع أرضنـا
فالصبح لا يرضي هوان العيش
في وطن ذليل
أنا لا ألوم النار إن هدأت
وصارت نخوة عرجاء
في جسد عليل..
أنا لا ألـوم النهر
إن جفت شواطئـه
وأجدب زرعه..
وتكسرت كالضوء في عينيه
أعناق النخيل..
مادامت الأشباح تسكر
من دماء النيل..
لا تسأليني الآن..
عن زمن جميل
من قصيدة جاء السحاب بلا مطر سنة 1996
نقلاً عن جريدة "الأهرام"