بنكيران والكاريزما السياسية

بنكيران والكاريزما السياسية

المغرب اليوم -

بنكيران والكاريزما السياسية

عبدالعالي حامي الدين

عندما تحدث عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن الشرعية الكاريزمية كإحدى الشرعيات التي أثبتت حضورها في التاريخ السياسي للشعوب إلى جانب الشرعية التاريخية والشرعية العقلانية، فإنه كان يدرك، انطلاقا من تمارين سوسيوسياسية وتاريخية بأن بعض الشخصيات السياسية لا يمكن التعاطي معها كشخصيات عادية، ولا يمكن تناولها بشكل عابر في مسارها السياسي.
هي شخصيات من نوع مختلف تستطيع خلق جاذبية كبيرة بفعل حضورها الطاغي وقدرتها على التأثير على الآخرين، تمتلك مؤهلات نفسية قوية ولها قدرات استثنائية تستطيع بواسطتها التأثير في الجمهور، كما تتوفر على مخزون هائل من الشجاعة على اتخاذ قرارات مصيرية في لحظات مفصلية قد تكون مفتوحة على سيناريوهات خطيرة..
الشخصيات الكاريزماتية هي شخصيات تتمتع بموهبة خاصة في التعاطي مع الأحداث، هي شخصيات تؤثر وتتأثر وتتعامل بعاطفة قوية مع المحيط..
هناك العديد من الدراسات التي اهتمت بهذا النوع من الشخصيات، واعتبرت بأن هناك ثلاثة عوامل أساسية تجعل الشخصية ذات طبيعة كاريزمية: أولا الإحساس العميق بقوتها الذاتية، وشعورها بامتلاكها لطاقة جبارة تفوق الآخرين، وفي بعض الأحايين تعطي الانطباع بأنها شخصيات مغرورة، لكنها في الواقع تعكس إحساسا بالثقة القوية في الذات إلى درجة الإفراط.
العامل الثاني هو امتلاك القدرة على التأثير العاطفي في الآخرين، وهو تأثير قد يصل إلى درجة  تمرير المشاعر نحو الآخرين وجعلهم يتقاسمون الحالة العاطفية للشخصية الكاريزمية.
المحدد الثالث لفهم الكاريزما السياسية هو امتلاك المناعة ضد المؤثرات الخارجية، وقدرتها على التحمل والصبر في مواجهة التحديات الخارجية والامتحانات الصعبة ..
باستقراء بعض النماذج من الشخصيات السياسية التي تمتعت بقدرات غير طبيعية للتأثير في الآخرين وتحولت إلى أسطورة في التاريخ السياسي الحديث مثل هتلر أو الخميني أو جمال عبد الناصر أو غاندي أو نهرو ومانديلا وغيرهم كثير…  جل هذه النماذج تطورت في مناخ سياسي أو عسكري أو دولي خاص جدا، حيث عوضت الكاريزما  قوة المؤسسات التي كانت غائبة أو ضعيفة، في مجتمعات خرجت للتو من تجربة الحرب أو الاستعمار أو الميز العنصري أو مقاومة الاستبداد أوالدفاع عن المصالح العليا للبلد.. برزت أيضا الحاجة إلى الشخصيات الكاريزمية في مجتمعات كانت محتاجة إلى زعامات لمقاومة أنظمة شمولية  اواستبدادية في محاولة لتلمس المبادئ الأولى للحرية كما لعبت الشخصيات الكاريزمية أدوارا حيوية في مراحل الانتقال الصعبة حيث الانقسامات تمنع انطلاق مسلسل المصالحة مع الذات أو مع الديمقراطية أو مع أنظمة الحكم الرشيد…
بعض الشخصيات الكاريزمية قادت مراحل سياسية صعبة في بلادها لكنها لم تقتل روح المؤسسات والقانون والديمقراطية، كما حدث مع نيلسون مانديلا، الذي استغل شعبيته وكارزميته من أجل مصالحة البيض والسود، في تجربة فريدة في تاريخ البشرية، ثم انسحب في الوقت المناسب دون أن يجعل من كاريزميته أداة لقتل الديمقراطية وقوة المؤسسات في حزبه وفي بلده. وهناك شخصيات كارزمية أخرى استغلت تأثيرها في الجماهير لتقتل فكرة الديمقراطية وروح المؤسسات كما فعل عبد الناصر مثلا أو صدام حسين أو حتى الخميني في مرحلة من المراحل في إيران …
اليوم الأستاذ عبد الإله بنكيران أمام امتحان من هذا النوع مع استحضار الخصوصية المغربية وفارق الأدوار والتأثير مع نماذج أخرى، استطاع أمين عام المصباح ورئيس أول حكومة مغربية بعد الربيع المغربي من أن يتحول إلى شخصية كارزمية، إلى زعيم وطني قريب من الشعب لم يسبقه إلى هذا الموقع سوى قادة قلائل مثل علال الفاسي والمهدي بنبركة وَعَبَد الرحيم بوعبيد وآخرون .. واليوم السؤال هو كيف نصنع في المغرب من كاريزما الأشخاص مؤسسات قوية، ومن شعبية الزعماء ممارسات ديمقراطية، ومن إشعاع  القادة طاقة لاختصار المسافات على درب الإصلاح…
بلادنا وبالنظر إلى حداثة تجربتها السياسية وهشاشة ديمقراطيتها يمكن أن تربح الكثير مع زعماء كارزميون قريبون من الشعب يؤمنون بالإصلاح ومستعدون للتضحية من أجله، كما يمكن أن تخسر الكثير مع زعماء يصعدون فوق المؤسسات لبناء مجدهم الشخصي دون ترك بصمات للتغيير على مسار وطنهم وتاريخه السياسي. هذا هو التمرين الحقيقي الموضوع في طريق الأستاذ بنكيران اليوم…

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بنكيران والكاريزما السياسية بنكيران والكاريزما السياسية



GMT 17:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا تفعلون في هذي الديار؟

GMT 16:02 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 16:00 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 15:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

GMT 15:54 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

GMT 15:53 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 15:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

وجع فى رأس إسرائيل

GMT 15:47 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حكم «الجنائية» وتوابعه

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 18:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة
المغرب اليوم - حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 18:36 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
المغرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 01:49 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

المغربية عزيزة جلال تعود للغناء بعد توقف دام 30 عامًا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib