بقلم - عبد العالي حامي الدين
بشعارات مشابهة لِحَراك الريف، صدحت حناجر المحتجين بمدينة جرادة المكلومة بعد وفاة الأخوين: الحسين وجدوان في بئر للفحم الحجري “الساندريات” بطريقة مأساوية..
هذه المرة رفعت الاحتجاجات الشعبية الأعلام الوطنية، تجنبا لأي اتهام بالانفصال والعمالة لساكنة خرجت تطالب بحقها في التنمية وتعبر عن غضبها من استغلال خيرات الأرض من طرف مراكز النفوذ والاستغلال، واستفادة من درس احتجاجات الريف التي ألصقت بها تهمة الانفصال ظلما وغباء..
الملامح الأولية لاحتجاجات جرادة لا تختلف كثيرا عن احتجاجات الريف وزاكورة وسيدي إيفني..
أولا، احتجاج ذو طبيعة اجتماعية واقتصادية، لكن بمضمون سياسي يؤطره الإحساس بالغبن الاجتماعي والشعور بظلم الدولة التي تكتفي بالتفرج على مراكز الاستغلال، وهي تنهب الثروات الباطنية وتراكم ثروات خيالية على حساب الفئات المحرومة، وهو ما تعكسه الشعارات المنددة بفساد الإدارة والمطالبة بالتوزيع العادل للثروات الوطنية والتنبيه إلى الفوارق الاجتماعية الشاسعة.
ثانيا، الطابع السلمي للاحتجاجات والحرص على عدم الاحتكاك بقوى الأمن، وعدم الانجرار إلى الصدام مع القوات العمومية، حرصا على تبليغ رسائل الاحتجاج بدون تشويش..
ثالثا، الحضور اللافت للمرأة، باعتبارها المتضررة من الخصاص الاجتماعي، والمسؤولة عن تدبير تبعات الفقر والحرمان داخل الأسرة. (تابعت فيديوهات مؤثرة عن نساء من جرادة يشتكين من شظف العيش، يخرجن للبحث عن الطعام لأطفالهن من القمامة…).
رابعا، رغم وجود قابلية اجتماعية للاحتجاج، بل وانطلاق بعضها بسبب “غلاء” فواتير الماء والكهرباء قبل الاحتجاجات الأخيرة، فإن وجود عامل مستفز Le facteur provocateur يكون دائما وراء انطلاق شرارة الاحتجاجات: وفاة محسن فكري بطريقة مأساوية وسط حاوية لنقل الأزبال، ووفاة شابين غرقا داخل بئر الفحم (نتذكر الطريقة المأساوية لوفاة محمد البوعزيزي بسيدي بوزيد، وانطلاق شرارة الثروات في عدد من البلدان العربية)..
خامسا، رغم وجود قيادة ميدانية يتم فرزها بطريقة تلقائية من بين الشباب المتعلم الذي يتقن صياغة الشعارات وتعبئة الجمهور، فإن الحاضنة الرئيسة للاحتجاجات تتكون من أوساط شعبية متواضعة غير مؤطرة حزبيا، تنحدر في عمومها من أصول فقيرة تنتمي إلى أدنى درجات السلم الاجتماعي، وهو ما يعني أن برامج التنمية الوطنية لا تصل إلى مستحقيها من فئات اجتماعية مسحوقة.
سادسا، ضعف المؤسسات التمثيلية المنتخبة، وعدم قدرتها على استيعاب المطالب الاجتماعية ومعاناتها من ضعف الفعالية، بل ينظر إليها في الغالب كجزء من الأسباب التي تقف وراء معاناة الساكنة، خصوصا إذا كانت هذه المؤسسات تدبر من طرف أحزاب فاقدة للمصداقية، مع إمكانية تورط بعض المنتخبين الفاسدين في نهب ثروات الشعب..
إذا كانت ملامح هذه الاحتجاجات الاجتماعية تبدو صغيرة وقابلة للاحتواء من طرف الدولة، فإن تراكم هذه الاحتجاجات وتزامنها سيعجل بصعود المضمون السياسي، وبلورة شعارات سياسية أكثر وضوحا تختصر المسافة الضرورية لفهم الحقيقة المرة، وهي أن الفوارق الاجتماعية الموجودة ما هي سوى تعبير عن اختيارات سياسية معينة، لا مجال لتجاوزها إلا عبر اختيارات سياسية مختلفة، وهو ما يعيد طرح سؤال الإصلاح السياسي العميق والشامل..
رحم الله شهداء الفحم، شهداء جرادة.. وإنا لله وإنا إليه راجعون .