علّمتنا تجارب الحُروب التي لم تتوقّف في مِنطقتنا “الشّرق الأوسط” طِوال القرن الماضي، والعقدين الأوّلين من القرن الواحد والعشرين الحالي أمرين أساسيين: الأوّل أنّ الصّراعات العِرقيّة والدينيّة “المُجمّدة” يُمكن أن تتحوّل إلى “ساخنةٍ”، وتنفجر مُواجهات دمويّة في أيّ لحظة، وثانيًا أنّ اتّفاقات وقف إطلاق النّار و”الهُدن” المُترتّبة عليها لا يُمكن التّعويل على احتِرامها، وأنّ انهِيارها، أو اختِراقها، من قبل الأطراف المُتحاربة مُتوقّعٌ بسهولةٍ، ونادرًا ما تُعمِّر طويلًا، طالما أنّ الأسباب الكامنة خلفها، وأدّت إلى إشعال فتيل مُواجهات ما زالت كامِنَةً، ولم يتم إيجاد حل جذريّ لها.
لهذه الأسباب لم يُفاجئنا انهِيار وقف إطلاق النّار الذي تمّ التوصّل إليه في موسكو برعاية وزير الخارجيّة سيرغي لافروف، ومُشاركة وزيريّ خارجيّة أرمينيا وأذربيجان بعد ساعات في الصّراع المُتجدّد حول إقليم “قرة باخ” المُتنازع عليه بين البلدين (أذربيجان وأرمينيا)، وأدّى إلى مقتل 300 شخص، وتشريد الآلاف من الجانبين في غُضون أسبوعين.
الحرب الأذريّة الأرمنيّة اندلعت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989 من القرن الماضي، حول إقليم “قرة باخ” الواقع في وسط أذربيجان، ومُعظم سكّانه من الأرمن الأرثوذكس، وعدد سكّانه 70 ألفًا، ومساحته 4500 كيلومتر مربع، أيّ نِصف مساحة لبنان، وأدّت هذه الحرب إلى مقتل مليون شخص من الجانبين، ولم تتوقّف إلا بعد التوصّل إلى اتّفاقِ وقف إطلاق النّار برعايةٍ أمريكيّةٍ أوروبيّةٍ ممّا أدّى إلى تجميد الصّراع وليس حلّه.
تجدّد الصّراع يُهَدِّد بإشعال مِنطقة القوقاز برمّتها وإغراقها في حُروبٍ عِرقيّة، على غِرار حرب البلقان، وبِما يُؤدّي إلى نُشوء دول وتفتيت أُخرى، وفتح الباب على مِصراعيه أمام تدخّلات القِوى العُظمى عسكريًّا، وأكبر دولتين مُستَهدفتِين من جرّاء هذا التجدّد للأزمة هُما تركيا وإيران.
أذربيجان الدولة المُسلمة الشيعيّة المذهب، التركمانيّة الجُذور، تشعر بأنّها قويّة وثريّة الآن بفعل مداخيلها من النّفط والغاز، ودعم قوّتين إقليميّتين لها هُما تركيا ودولة الاحتِلال الإسرائيلي، وتعتقد أنّ الوقت مُلائم لاستِعادة إقليم “قرة باخ” الذي سلخه عنها جوزيف ستالين عام 1923 ووضعه تحت إدارة الأرمن المسيحيين، ولهذا أعادت تسخين هذه الجبهة حيث يأمل رئيسها الهام علييف أن تكون نتائج الجولة الحاليّة أفضل من سابقاتها، أمّا أرمينيا في المُقابل فتُريد اعترافًا دوليًّا بإقليم “قرة باخ” كدولة مُستقلّة، أو انضِمامه إليها، وتحظى بدعمٍ روسيٍّ مدعومٍ بمُعاهدة دفاعٍ مُشتركة.
حُروب الشّرق الأوسط كانت في بعضها “حُروب أنابيب غاز”، والحرب السوريّة الحاليّة أحد الأمثلة عليها، ويبدو أنّ العدوى انتقلت إلى القوقاز، في خطّ أنابيب الغاز الذي يمتدّ من بحر قزوين عبر الأراضي التركيّة ومنها إلى أوروبا و”إسرائيل” ويَمُر بالقُرب من جبهات القِتال، هي أحد أسباب هذه الحرب الحاليّة، وليس سبَبها الوحيد.
الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الذي يطمح بالتّتويج زعيمًا إسلاميًّا تُركمانيًّا، من خِلال أحياء الإمبراطوريّة التركمانيّة العثمانيّة، التي تمتد من الأيغور غرب الصين حتى فيينا، يعتقد أنّ الوقت باتَ مُلائِمًا لتحقيق هذا الهدف، ولهذا بدأ حربه في سوريا ثم نقلها إلى ليبيا، وها هو الآن يُرسل مُقاتليه التركمان و”الجِهاديين العرب” إلى أذربيجان مدعومين بأسرابٍ من طائرات “الدرونز” الهُجوميّة لحسم الحرب لصالح حليفه وابن جلدته التّركماني الأذري.
مِن مُفارقات هذا الصّراع أنّ طائرات “الدرونز” التركيّة المُتقدّمة تكنولوجيًّا والمُصنّعة محليًّا، تُقاتل جنبًا إلى جنب مع نظيرتها الإسرائيليّة في “قرة باخ” ضدّ أرمينيا وروسيا التي تدعمها بشَكلٍ مُباشرٍ، والتي يقول خُبراء عسكريين إنّها ما زالت مُتأخّرةً في صِناعة هذا النّوع مِن الطّائرات الذي ألغى عمليًّا سِلاح الدّروع لأنّه يتمتّع بأنظمةٍ ذكيّةٍ، وصواريخ مُتطوّرةٍ، يُمكن أنْ تَضرِب أبراج الدبّابات، نُقطة ضعفها من الجَو.
أمّا المُفارقة الأُخرى تتمثّل في سُقوط العامل الطّائفي الشّيعي السنّي، الذي استخدمته أمريكا لخلق فِتنة بين إيران الشيعيّة ودُول عربيّة سنيّة، خاصّةً في السعوديّة والخليج.
فاللّافت أنّ مُعظم الدول الخليجيّة “السنيّة” تَقِف حاليًّا في خندق أذربيجان، وهو الخندق الذي تَقِف فيه أيضًا تركيا عدوّها اللّدود، وإسرائيل أيضًا حليف بعضها الجديد.
مِصر ربّما تكون الدّولة الوحيدة التي كسَرت هذه القاعدة، واتّخذت موقفًا مُغايِرًا لحُلفائها الخليجيين، وانحازت إلى حليفها الروسي القديم، وأرسلت سُفنها وطائِراتها للاشتِراك في مُناوراتٍ عسكريّةٍ روسيّةٍ مِصريّةٍ في البحر الأسود للمرّة الأُولى في تاريخ البلدين.
التّحالف الروسي المِصري الذي أحبط طُموحات الرئيس أردوغان في ليبيا وقبلها جُزئيًّا في سورية، ينتقل إلى مِنطقة القوقاز، حيث تُعلن القِيادة المِصريّة موقفها الدّاعم لأرمينيا علنيًّا، واستِعدادها للمُشاركة في الحرب إلى جانبها، ربّما نِكايةً بالخصم التركيّ، ورغبةً في تحجيم الطّموحات الأردوغانيّة القوميّة التركمانيّة والإسلاميّة.
خريطة الصّراع تبدو مُعقّدةً ومُتشابكةً وتَستعصِي على الفهم بالنّسبة للقارِئ غير المُسيّس، ولكن الاستِنتاج الآمن والأكثر سُهولةً وسط هذه المَتاهة أنّ إيران ربّما تكون أحد الاستِهدافات الرئيسيّة من إشعال فتيل هذا الصّراع في الوقتِ الرّاهن، من حيثُ وجود خطّة أمريكيّة إسرائيليّة لجرّها إلى حربِ استنزافٍ تكون أذربيجان أكبر قاعدة اسرائيليّة في القوقاز مِصيَدتها الكُبرى.
***
نشرح أكثر ونقول إنّ أبناء القوميّة الأذربيجانيّة التركمانيّة يُشَكِّلون حواليّ 35% من مجموع سكّان إيران حيث يُقدّر عددهم بحواليّ 25 ـ 30 مِليون نسمة، ويتركّزون في شِمال البِلاد، وتُعاني هذه العِرقيّة من ضُغوط عديدة أبرزها عدم تدريس اللّغة الأذريّة في مدارسها العامّة والخاصّة حسب أدبيّات جماعات انفصاليّة ذات نزعات قوميّة في صُفوفها، وتَجِد دعمًا مِن الغرب، وأمريكا على وجه الخُصوص، مِثل ما تقول وسائل الإعلام الحُكوميّة الإيرانيّة.
الرئيس الإيراني حسن روحاني عبّر عن وعي بلاده بهذا الاستِهداف، وأخطاره، يوم أمس عندما قال في تصريحاتٍ صحفيّة “إيران لن تتسامح مع أيّ دولة تُرسل إرهابيين إلى حُدودها، تحت أيّ ذريعة”، في تهديدٍ مُباشرٍ لكُل من أذربيجان وتركيا، خاصّةً بعد أنْ أفادت تقارير إخباريّة أنّ الاخيرة نقلت قوّات من عناصر تابعة للجيش السوري الحر من ليبيا وإدلب إلى جبهاتِ القِتال في “قرة باخ” للقِتال إلى جانب الجيش الأذربيجاني مُقابل 2000 دولار في الشّهر لكُل “جِهادي”.
يبدو أنّ الخطّة التي تحدّث عنها الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي، قبل أربعة أعوام بتفجير إيران من الدّاخل من خِلال دعم وتسليح وتمويل الأقليّات العِرقيّة (عرب، بلوش، أكراد، أذريّون) في طَور التّفعيل بالتّنسيق مع أمريكا وإسرائيل حاليًّا، وربّما مع تركيا لاحقًا، وهذا ما يُفَسِّر غزل الرئيس أردوغان الأخير في المملكة وقِيادتها، فنَحنُ أمام صِراعات جديدة قد تقلب التّحالفات الحاليّة رأسًا على عقبٍ ستتوضّح أكثر بعد انتِهاء مهرجان الانتخابات الأمريكيّة .. واللُه أعلم