أن يتّصل مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكي هاتفيًّا بكُل من الرئيس العِراقي برهم صالح ورئيس وزرائه مصطفى الكاظمي، ويُهدِّد بإغلاق السّفارة الأمريكيّة في بغداد إذا لم تتوقّف الصّواريخ التي تَستهدِفها فهذه قمّة الوقاحة والابتِزاز، وخُروج سافر عن القيم والأعراف الدبلوماسيّة.
لا نَعرِف كيف يقبل الرئيس العِراقي صالح والكاظمي باستِقبالهما والحديث للوزير بومبيو الذي تجرّأ وتصرّف كمندوب سامي أمريكي، وتعاطى معهما كما لو أنّهما موظّفان، أو أتباع لحُكومته، فقد جرت الأعراف والبُروتوكولات الدبلوماسيّة أن يُخاطب الوزير وزيرًا مثله، لكن أن يُهدِّد رئيس جمهوريّة دولة تملك ثمانية آلاف عام من الحضارة، فهذه إهانة، وكسرًا لكُلّ الأعراف المُتّبعة.
لسنا مع قصف السّفارات الأجنبيّة بالصّواريخ سواءً كانت في العِراق أو في أيّ بلدٍ آخر، شريطة أن تلتزم بالأعراف الدبلوماسيّة ولا تتدخّل في الشّؤون الداخليّة للبلد الذي يستضيفها، ولكنّ السّفارة الأمريكيّة تحوّلت إلى عشٍّ للجواسيس، وبُؤرةٍ للتّآمر على هذا البلد العربيّ المُسلم الذي ما زال يعيش حالةً من الفوضى والفساد المالي وانعِدام الاستقرار بسبب الغزو ومن ثمّ الاحتِلال الأمريكي، وكان الأحرى بالحُكومة العِراقيّة أن تُبادر بإغلاقها، لأنّ وجودها على أرض العِراق، بعد الحِصار والاحتِلال والغزو، يُعتَبر إهانةً بكُل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
***
الإدارة الأمريكيّة اغتصبت الأرض التي أُقيمت عليها هذه السّفارة في المِنطقة الخضراء في بغداد، وتُعتبر السّفارة الأكبر في العالم، وتَزيد مِساحتها عن 170 كيلومترًا مُربّعًا، ويعمل فيها آلاف الجواسيس، وأرادتها أن تكون مَقرًّا لحُكم العِراق وليس سِفارةً، تقوم بعملٍ دبلوماسيّ صِرف مِثل كُل السّفارات الأجنبيّة الأُخرى، في إطارِ القانون.
لا نَعرِف مدى جديّة هذه التّهديدات بإغلاق السّفارة، ونقل السّفير وطاقمه إلى القنصليّة الأمريكيّة في أربيل، ولا نستبعد أن تكون مُجرّد مُحاولة ابتزاز جديدة للحُكومة العِراقيّة، ومشروع فِتنة طائفيّة جديدة، بين السنّة والشّيعة العِراقيين العرب، وبين هؤلاء والأكراد في كُردستان العِراق، فالفِتَن طبع الإدارات الأمريكيّة ضدّ العرب والمُسلمين.
أمريكا التي دمّرت العِراق وقتلت مِليونين من أبنائه العُزّل على الاقل، سواءً من خِلال حِصارها لهذا البلد واحتِلاله وتدميره، ودعم الجماعات الإرهابيّة المُتطرّفة على أرضه، ولهذا نعتقد أنّها آخِر دولة في العالم التي يجب أن تُلقِي مُحاضرات علينا حول احتِرام الأعراف والقوانين والمُعاهدات الدوليّة.
أمريكا تدعم، وتموّل، أكثر من 2000 منظّمة غير حُكوميّة في العِراق، ومُعظم هذه المنظّمات تعمل في خدمة مشاريعها لزعزعة استِقرار العِراق، وبَذر بُذور الفِتنة الطائفيّة لتمزيق نسيجه الاجتماعيّ ووحدَتَيه الترابيّة والديمغرافيّة.
جميع الصّواريخ التي جرى إطلاقها على المِنطقة الخضراء لم تصب السّفارة الأمريكيّة بأيّ ضرر، ولم تجرح مُوظَّفًا أمريكيًّا واحِدًا، بينما أقدمت طائرة درون، انطلقت من أحد القواعد العسكريّة في العِراق، وبأمْرٍ مِن الرئيس دونالد ترامب على اغتِيال اللواء قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، ورفيقه أبو مهدي المهندس، أحد قادة الحشد الشعبي العِراقي قُرب مطار بغداد، ألا تُشَكِّل هذه الجريمة انتِهاكًا للأعراف والقوانين الدوليّة، وسِيادة دولة عُضو في الأُمم المتحدة؟ ومن يضمن لنا أنّ مُؤامرة الاغتِيال هذه لم تُطبَخ في السّفارة الأمريكيّة في بغداد؟
هذه السّفارة التي تُمَثِّل دولةً غزت العِراق واحتلّته وقتلت الملايين من أبنائه، لا يجب أن تتواجد على أرض العِراق الطّاهرة في الأساس، لأنّها تُجَسِّد الاستِكبار، والمُحاصصة الطائفيّة، وكُل المُؤامرات على تدمير الدّولة العِراقيّة ومُؤسّساتها الوطنيّة.
***
لا أسَف على السّفارة الأمريكيّة إذا ما قرّر سفيرها وجواسيسه الهرب إلى أربيل، وإغلاق وِكر تجسّسهم في بغداد، وستُلاحقهم اللّعنات إلى هُناك، ولن يكونوا في مأمنٍ، خاصّةً بعد أن أعلن بومبيو في تهديده للرئيس العِراقي بأنّه سيَنتقِم من الذين يَقصِفون سِفارته.
أمريكا قبل أن تتحدّث عن القوانين والمُعاهدات الدوليّة يجب أن تعتذر رسميًّا وتدفع تِرليونات الدّولارات كتعويض لأهالي ضحاياها وأيتامهم وأراملهم في العِراق، تكفيرًا عن خطاياها، فإذا كانت قد أجبرَت ليبيا القذافي على دفع ثلاثة مِليارات دولار لضحايا طائرة لوكربي (300 راكب) فكَم ستدفع لمِليونيّ شهيد قتلتهم أثناء حِصارها وغَزوها واحتِلالها للعِراق، غير مِئات الآلاف الذين استَشهدوا من جرّاء اليورانيوم المُنضدد الذي استخدمته في قنابلها؟
المُقاومة العِراقيّة أجبرت امريكا على سحب جميع قوّاتها ذليلةً من العِراق عام 2011، هي قطعًا ستُجبرها على سحب ما تبقّى لها من قوّاتٍ وقواعد وجواسيس، ولا يُشرِّف العِراقيين هذا الوجود الأمريكيّ الاحتلاليّ الذي يُدنِّس أرضهم.. والأيّام بيننا.