بقلم : عبد الباري عطوان
قبل الغزو الامريكي للعراق قال لنا دونالد رامسفيلد وزير الدفاع في حينها، وآلته الدعائية الجبارة بشقيها الغربي والعربي، ان اقمار التجسس الامريكية التي تزدحم بها اجواء العراق تستطيع ان تحدد “النمرة” الداخلية لملابس الرئيس العراقي صدام حسين، وتحديد هوية الدول المصنعة لها.
كلام جميل.. وطالما الحال هو كذلك، ونحن نصدق هذه الاقوال الامريكية على مضض، نسأل كيف قصفت اربع طائرات امريكية من طراز “اف 16″ موقعا للجيش السوري قرب مطار دير الزور، وتقتل ثمانين من جنوده، وتصيب المئات بجروح عن طريق الخطأ؟
ولنفترض ان الطائرات الامريكية تخطيء، فلماذا لا يحدث هذا الخطأ مع القوات العراقية مثلا في الفلوجة وتكريت والرمادي والموصل، او القوات الروسية، او الكردية، او التركية.. او.. او.. وقائمة القوات الخاصة والعامة الموجودة على الارض السورية اطول من صبر ايوب عليه اسلام.
صقور وزارة الدفاع الامريكية “البنتاغون” يريدون افشال اتفاق الهدنة الذي توصل اليه لقاء جنيف بين جون كيري، وزير الخارجية الامريكي، وسيرغي لافروف، نظيره الروسي، قبل عشرة ايام، ونفذوا هذه الغارات على مواقع الجيش السوري على امل ان يتلوها رد فعل سوري او روسي انتقامي، او اعلان غاضب بإنهيار الاتفاق، ولكن هذا لم يحدث لان الجانبين الروسي والسوري متمسكان به، لما يتضمنه من بنود لصالحهما، وتحليا بضبط النفس.
***
هناك نظرية تقول ان الطائرات الامريكية شنت هذه الغارات على مواقع الجيش السوري كمقدمة، او تبرير لقصف قادم لمواقع جبهة “فتح الشام”، النصرة سابقا وحلفائها، مثل “احرار الشام”، و”جيش الفتح” وغيرها من الفصائل، ولكننا لا نميل الى هذه النظرية رغم وجاهة بعض جوانبها، لسبب بسيط، وهو ان الادارة الامريكية لا تريد الالتزام بالنقطة الواردة في الاتفاق، وتنص على فك ارتباط الفصائل “المعتدلة” بالاخرى المتشددة او “الارهابية”، حسب تصنيفها، لانها وجدت معارضة شديدة من هذه الفصائل لعملية فك الارتباط هذه، ولمست حدوث عملية اصطفاف غير مسبوقة خلف جبهة النصرة بفضل جهود المفتي الشيخ عبد الله المحيسني، والاجتماعات المكثفة التي عقدها طوال الايام المقبلة.
الروس الذين خدعوا بدهائهم شريكهم الامريكي عندما جروه لتوقيع هذا الاتفاق، وتشكيل غرفة تنسيق عسكرية مشتركة لمحاربة، والقضاء على الجماعات “الجهادية” المتشددة، يدركون جيدا ان القضاء على جبهة “فتح الشام” او “النصرة”، يعني نهاية المعارضة المسلحة كليا في سورية، ويبدو ان “الصحوة” الامريكية لهذه الخديعة جاءت متأخرة.
الفصل بين الفصائل ومقاتليها امر صعب، ان لم يكن من المستحيل بسبب التدخل الجغرافي اولا، والتداخل التنظيمي والبشري ثانيا، فهناك العديد من الاشقاء من العائلة الواحدة يتوزعون على العديد من التنظيمات، فكيف يمكن فرزهم، وتصنيف بعضهم، “ارهابي” يجب قتله، والآخر “معتدل” يجب الحفاظ على حياته؟ وهنا تكمن ورطة التعهد الامريكي.
من تابع مقابلة السيد ابو محمد الجولاني زعيم تنظيم “فتح الشام” على قناة “الجزيرة” يوم امس، وما ادلى به من تصريحات، يدرك جيدا خريطة الصراع على الارض السورية، فالسيد الجولاني وجه نقدا لاذعا للادارة الامريكية لانها ما زالت تعتبر جبهته “ارهابية” رغم فك ارتباطها مع تنظيم “القاعدة”، وكأنه يقول انه فعل ذلك بإيعاز منهم، وحلفائهم العرب، واكد انه يريد اقامة كيان سني مستقل على الارض السورية والقضاء على الطوائف الاخرى، ومحاربة “المشروع الرافضي”، وذهب الى ما هو ابعد من ذلك عندما تحدث عن مخطط روسي امريكي “هدفه استسلام” الفصائل المسلحة التي تقاتل النظام السوري”، وقال ان امريكا تحاول “ان تفعل الآن في سورية ما فعلته في العراق قبل عشرين عاما”، وهذا يعني رفضا واضحا لاتفاق الهدنة، واي عملية او حلول سياسية يمكن التوصل اليها في مؤتمر جنيف اذا ما قدر له الانعقاد.
امريكا تغرق في مأزق كبير في سورية لا تعرف كيف تخرج منه، وتعتقد ان انهيار اتفاق الهدنة قد يكون احد المخارج، لاعادة تعديله وفق مطالبها وحلفائها، سواء في المعارضة السورية او الدول الخليجية الداعمة لها.
وسائط التواصل الاجتماعي، وموقع “اليوتيوب” خاصة، مليئة بالاشرطة التي تعكس حالة الغضب الشديد تجاه امريكا في اوساط بعض فصائل المعارضة السورية المسلحة، مما يعني ان حالة الكراهية لامريكا التي بلغت ذروتها اثناء الغزو الامريكي للعراق، وتراجعت قليلا في سورية بسبب الدعم لبعض فصائل المعارضة المسلحة، تعود، اي “الكراهية”، الى صورتها السابقة، وربما اكثر قوة.
التفاهمات الامريكية الروسية بشقيها السياسي والعسكري تواجه امتحانا عسيرا هذه الايام، والايام القليلة القادمة، التي ربما تشهد لقاء بين كيري ولافروف، وربما بوتين واوباما، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة، ربما تكون حاسمة لانقاذ اتفاق الهدنة من عدمه.
***
الانقاذ يعني تراجعا روسيا، وتعديل بنود الاتفاق تجاوبا مع المطالب الامريكية، والانهيار يعني تمسك الجانبين بمواقفهما، وهو التمسك الذي ادى الى الغاء اجتماع مجلس الامن الدولي لاعتماده، اي الاتفاق، يوم الجمعة الماضي.
من الصعب ترجيح اي من الاحتمالين، التعديل او الانهيار، ولكن البديل للانهيار ربما يكون العودة للمربع الاول، واشتعال حرب روسية امريكية بالانابة على الارض السورية، يمكن ان تتطور، اذا لم تطوق بسرعة، الى حرب مباشرة لا يريدها اي طرف، وعلينا ان نتذكر ان الحرب العالمية الاولى انفجرت بسبب اغتيال ولي العهد النمساوي.
اوباما المتهم من خصمه دونالد ترامب، المرشح الجمهوري بـ”الجبن” في سورية، ربما يريد ان يرد على هذا الاتهام “بعمل ما” لتحسين حظوظ المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، التي يتراجع تقدمها في استطلاعات الرأي بشكل متسارع، تماما مثلما قدم 38 مليار دولار مساعدات لدولة الاحتلال الاسرائيلي للغرض نفسه لكسب اصوات اليهود.
ايام صعبة قادمة حافلة بالمفاجآت.. واتفاق الهدنة بات في غرفة “الانعاش”.. وما علينا الا الرصد والانتظار كالعادة، وهل نملك اي خيار آخر؟