حرصتُ على الاستماع للتسجيل الصوتي الذي بثته “مؤسسة الفرقان” لـ “مولانا امير المؤمنين أبو بكر الحسني البغدادي”، الذي استغرق واحد وثلاثين ونصف الدقيقة، وجاء بمثابة خطاب تعبئة وتحشيد لابناء الطائفة السنية عامة، وانصار “الدولة الاسلامية” خاصة، وتحريض للثورة على جميع الحكومات العربية والإسلامية.
عدة أمور كانت لافتة في هذا الخطاب الذي يعتبر الأهم منذ خطابه الأول في المسجد النوري الكبير في الموصل قبل عامين، واعلن فيه قيام “دولة الخلافة”، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: يُذّكر الخطاب بطريقة او بأخرى بخطابات شيخ البغدادي أسامة بن لادن، مؤسس تنظيم “القاعدة”، من حيث اللجوء الى الاستعانة بآيات قرآنية، مع فارق أساسي، وهو ان السيد البغدادي كان متبحرا في علوم القرآن، وجاء معظم خطابه حافلا بالآيات القرآنية التي رتلها بصوت رخيم، وهذا امر غير مفاجئ، فالرجل يحمل درجة الدكتوراه في العلوم الإسلامية، وكان خطيبا لاحد المساجد في العراق (سامراء).
ثانيا: ركز طوال الخطاب على تحريض “الانغماسيين” و”الاستشهاديين” على التضحية بأرواحهم، في سبيل الدفاع عن دولة الخلافة، مما يعني ان هؤلاء سيكون لهم دور كبير في معركتي الموصل والرقة، حيث بدأت الأولى، والثانية في الطريق، وخاطبهم بقوله “ان الحرب حربكم حولوا ليل الكافرين نهارا واجعلوا دماءهم انهارا”.
ثالثا: شن هجوما شرسا على زعماء السنة في العراق، واتهمهم بممارسة “احقر صور الخيانة” على مر التاريخ، منتقدا “اهل السنة” باعتبارهم “لا يتعلمون، وهاجم صمتهم معلنا حربا طائفية ضد أبناء الطائفة الشيعية.
رابعا: ترحم على أرواح “الشهداء” من قتلى “الدولة الإسلامية”، وذكر أبو محمد العدناني، وأبو محمد الفرقان (وزير الاعلام)، واكد ان “دولة الخلافة” لم تتأثر بموتهما، وهم “ضمن القرابين التي نقدمهم من اجل إرضاء الله”.
خامسا: دعا للمرة الأولى، وعلى هذه الدرجة من الصراحة والوضوح، مقاتلي “الدولة الإسلامية” وانصارها الى تنفيذ عمليات ضد تركيا قائلا “انها دخلت دائرة جهادكم”، مضيفا “استعينوا بالله واغزوها ثم ادرجوها في مناطق صراعكم الملتهبة”، وهذه الدعوة تنبئ بفأل سيء للرئيس التركي رجب طيب اردوغان وحكومته واستقرار بلاده، سواء في حال سقوط الموصل، او في المرحلة التي تتلوها.
سادسا: لم ينس ابو بكر البغدادي المملكة العربية السعودية والاسرة الحاكمة فيها، وحرض أنصاره على تنفيذ عمليات اغتيال للأمراء ورجال الشرطة، والوزراء والإعلاميين، والكتاب، وهذه دعوة تحريضية غير مسبوقة لم يقدم عليها الشيخ بن لادن، خاصة الشق المتعلق منها بالإعلاميين والكتاب الذين وصفهم بـ”الأبواق”.
سابعا: هاجم حركة “الاخوان المسلمين” بشراسة، ووصفهم بـ”الزنادقة”، ووصفها بأنها بدت راس حربة مسمومة بيد الصليبيين، مثلما هاجم الفصائل الإسلامية الأخرى المقاتلة على الأرض السورية، ووصفها وقادتها بالفصائل المرتدة التي تحارب تحت اجنحة الطائرات الامريكية.
ثامنا: كان هجومه على القيادة السورية محصورا في اشارته الى معركة حلب قائلا “ان روسيا ونظام الأسد يسعيان الى انشاء كيان نصيري”.
***
صحيح ان لهجة الخطاب، الذي يبدو اقرب الى “خطبة جمعة” منه كخطاب سياسي، يعكس الظرف الصعب الذي يواجهه تنظيم “الدولة”، حيث تتقدم القوات العراقية المدعومة بقوات البشمرغة الكردية ومحمية بغطاء جوي امريكي لإخراجه من الموصل عاصمته العراقية، ولكنه لا يوحي بأن صاحبه منفعلا او خائفا، وانما عكس ذلك تماما، فلم يتطرق مطلقا الى الاكراد ودورهم في هذه الحرب، ولا عن سير المعارك، وربما يفسر هذا التجاهل الى وجوده ربما خارج الموصل في “مكان ما” في سورية والأرجح الرقة.
نقطة أخرى مهمة عسكريا وسياسيا، وربما تسلط الأضواء على مخططات تنظيم “الدولة” وزعيمه البغدادي للمستقبل، وبالتحديد لمرحلة ما بعد الموصل والرقة في حال سقوطهما، ونعني بذلك مخاطبته لاهل الموصل بـ”المهاجرين والانصار”، وحديثه عن “الهجرة” الى “ولايات الدولة المباركة” في ليبيا ومصر وخراسان (أفغانستان) والصومال واليمن.
ويبدو واضحا من خلال الخطاب أيضا ان “الهدنة” التي استمرت لاكثر من عام بين تنظيم “الدولة” وتركيا قد انهارت، وحلت محلها المواجهة، حيث اتهم حكومة العدالة والتنمية التي يتزعمها الرئيس اردوغان بـ”العلمانية” و”المرتدة”، وقال انها تسعى لتحقيق مصالحها واطماعها في شمال العراق واطراف الشام، ودخلت في الحرب ضد الدولة “مستظلة بطائرات الصليبيين”، وهذه الفقرة توحي بان هذا التنظيم بات اقرب الى موقف الاكراد، دون ان يكون هناك تنسيق بين الجانبين.
لا نعتقد ان الرئيس اردوغان توقع ان يجد نفسه وسط حقل من الإرهاب والمأزق والالغام المتفجرة، عندما قرر التورط في الازمة السورية سياسيا وعسكريا، وهذا التحريض من قبل زعيم التنظيم البغدادي لغزو تركيا، ربما يؤدي الى “احياء” خلايا “نائمة” وموجة من التفجيرات.
***
ربما يعتقد الكثير من المراقبين الغربيين والعرب ان ايام “الدولة الإسلامية” باتت معدودة، وان عاصمتها في الموصل والرقة، ساقطتان لا محالة، بالنظر الى حجم وقوة التحالف الذي يشارك في الهجوم الاستعادتها من سيطرة تنظيم “الدولة”، وهذا الاعتقاد ينطوي على الكثير من الوجاهة من الناحية النظرية، ولكن قد تتفكك “الدولة الإسلامية” لمصلحة بقاء “التنظيم”، وهنا مكمن الخطورة الحقيقية.
خطاب “الأمير” البغدادي ومضمونه التعبوي، يعكس هذا التحول، ويمهد له، واشارته الى الهجرة الى “الولايات المباركة” في عدة دول عربية وإسلامية، ربما يؤشر الى انتقال العديد من المقاتلين، وربما الاذرع الإعلامية الى هذه الولايات.
السؤال: لماذا جاء الخطاب “صوتيا” وليس بالصورة أيضا، على غرار الخطاب في الجامع النوري الكبير.
لا نملك إجابات، ولكن يمكن ان نتكهن بأن المرحلة الجديدة، والنزول تحت الأرض، والعمل السري الوشيك، يفرض ذلك، ولا نستبعد ان يكون الرجل غيّر هيئته، والله اعلم.