محمد الأشهب
هل انكفأ المغرب في ترسيم خياراته الإقليمية عن ملاحقة سراب البناء المغاربي، الذي ما إن يحاول الإمساك بخيوطه حتى يتبدد. أنها المرة الأولى التي يخلو فيها خطاب للملك محمد السادس من الإشارة إلى «الاتحاد المغاربي»، بالتزامن مع طرح أفق شراكات متنوعة مع الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي والمجال الطبيعي للحوار الأفريقي، من دون إغفال الانفتاح على عوالم غربية وآسيوية.
كانت الفرصة سانحة، لدى عرضه تطورات الأزمة في ليبيا، لمعاودة التأكيد على تفعيل الاتحاد المغاربي الذي كثيراً ما وصف بأنه خيار استراتيجي لا بديل منه. إلا أنه صنفها في خانة مناطق التوتر في الخريطة العربية، ودعا إلى حل معضلاتها عبر الحوار والمصالحة وإشراك مكونات مجتمعاتها واحترام سيادتها ووحدتها. ولفت إلى أن الحلول تشمل اليمن وسورية والعراق على حد سواء. وأبقى محمد السادس على ملف الصحراء في نطاق علاقات بلاده والأمم المتحدة، وتكريس المنظور الجهوي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
أكان الموقف يعكس ضجراً أو خيبة أمل حيال إخفاق مساعي الوئام الإقليمي، أو لا يعدو أن يكون تجاهلاً متعمداً حتمه نفاذ الصبر، فالواقع المغاربي كمشروع تكتل وفضاء دمج اقتصادي وتنسيق سياسي، لم يعد يثير الحماسة. أقله أنه يصعب تصور أي وئام مغاربي في ظل إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر اللذين يشكلان قاطرة الدفع في هذا الاتجاه. وبالقدر ذاته بات الرهان على الحل الإقليمي لنزاع الصحراء، في غياب تفاهم وانفراج حقيقي في علاقات البلدين الجارين.
عندما دعي المغرب إلى الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، أبدى ترحيباً كبيراً بالفكرة، ورأى في غضون ذلك أن انتسابه المغاربي يحتل الصدارة وفي إمكانه أن يتوازى ومجالات التعاون المفتوح مع المنظومة الخليجية التي توجت بإبرام شراكة متقدمة. وبعد بضع سنوات، انبرى الملك محمد السادس إلى ترجيح الانتماء العربي في علاقاته الذي يسير في اتجاه واحد مع البعد اليورو - متوسطي والامتداد الأفريقي. واقتصرت توجهات مغاربية على المحور الثنائي، بعدما تعذر منحها بعداً إقليمياً شاملاً.
لا يعني هذا الانكفاء المرحلي أن الخيار المغاربي تراجع إلى نقطة الصفر. لكن جمود مؤسسات الاتحاد التي اعتراها الصدأ لا يشي بتوقع قفزة عالية أو نقلة نوعية. ولئن كانت الأزمة الليبية زادت في تعقيد المشهد، فإن واقع الاتحاد المغاربي لم يكن أفضل قبل اندلاع هذه الأزمة أو قبل هبوب موجة «الربيع العربي». وبينما اعتقد كثيرون أن إسقاط القلاع الاستبداد، يمكن أن يفتح هوة في الجدار السميك للإشكالات المغاربية، انتصبت أسوار من نوع آخر، بين المغرب والجزائر وبين تونس وليبيا، بمبرر التصدي للتهديدات الأمنية والإرهابية المتنامية. سقط جدار برلين ليتم استنساخه في الشمال الأفريقي.
الأغرب في استمرار الاعتقاد بإمكان انبثاق روح جديدة في الجسد المغاربي المسجى، أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عرض إلى الإمكانات المتاحة لتحريك الجمود، في فترة تولي بلاده والمغرب الرئاسة المشتركة لمجموعة 5+5 التي تجمع الدول الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط. ولولا أن بلدان الضفة الأوروبية أبقوا على التزاماتهم ضمن هذه المنظومة التي اتسعت لتشمل مجالات الدفاع والأمن والتعاون الاقتصادي والتجاري، لاندثر شيء اسمه الاتحاد المغاربي من مصطلح تقسيم الفضاءات الإقليمية.
ليس الإخفاق قائماً في ماهية المشروع المغاربي الذي تتوافر له شروط الدمج والتكامل، لغوياً ودينياً وتاريخياً وجغرافياً، ولكنه نتاج غياب الإرادة السياسية التي مل زالت متأثرة بأجواء الحرب الباردة التي تخوضها بالوكالة عن واقع سياسي واقتصادي يزداد قتامة. فقد تردد في وقت سابق أن كلفة المغرب عربياً دفعت إلى انحسار الأفق وتراكم المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلب متنفساً، ينساب فيه تدفق الاستثمارات وتبادل الخبرات وتعزيز فرص الاستقرار والتنمية. واليوم لا أحد يبدو مهتماً بمعاودة نفض الغبار عن المشروع الحلم. وسواء اتفق الشركاء المغاربيون على تقويم التجربة لناحية التركيز على التكامل الاقتصادي، من خلال السعي لإنشاء سوق مغاربية موحدة، أو استبدلوا المقاربة بمجالات التنسيق السياسي الذي ينسحب على غيره من القطاعات، فإن حالة الانكفاء لا تزيد إلا استفحالاً.
لعلها المرة الأولى التي يبدو المغرب وقد أدار بظهره عن المشروع، وهو لا يفعل أكثر من ترجمة الواقع الراهن والإحساس بخيبة الأمل.