محمد الأشهب
من منظور لا يختلف كثيراً بين دولة وأخرى، اعتلت قضية الأئمة وتنظيم أوضاع المساجد واجهة الجدل في كل من تونس والجزائر والمغرب، من دون أن يفهم من ذلك حصرها في هذا المجال الجغرافي. فالأهداف التي تطاول تحصين أماكن العبادة من أي استغلال سياسي، والوقوع تحت تأثير الأفكار المتطرفة أصبحت قضية محورية في الساحتين العربية والإسلامية.
في تونس، لجأن السلطات إلى إغلاق بعض المساجد التي تحوم شبهات حول استخدام فضاءاتها لاستقطاب النار إلى التنظيمات الإرهابية، عبر الشحن الفكري والاستمالة إلى غير ما تبشر به العقيدة الإسلامية السمحة. جاء القرار على خلفية الهجمات الإرهابية التي ضربت شرايين المتنفس السياحي في أوج موسمه وأهدرت أرواح أبرياء تونسيين وأجانب.
واذا كانت الإجراءات قد تزامنت مع إقرار حال الطوارئ لتضييق المجال الذي تتحرك داخله الجماعات الإرهابية، فإن ارتفاع أصوات أئمة مساجد في الجزائر، محذرين من وقوع أعداد كثيرة من أماكن العبادة خارج سيطرة الانضباط وعدم التقيد بأحكام الشرع، أظهر تأثير الانفلات الأمني الذي يهدد بتقويض استقرار بالكاد عاود التقاط الأنفاس في الجزائر بعد العشرية السوداء. لكن المغرب احتاج إلى جهود إضافية على طريق معاودة تنظيم الحقل الديني، عبر إحداث معاهد تدريس وتأهيل الأئمة والمرشدين الدينيين في ظل انفتاح على إسهامات عالمات ومرشدات وواعظات.
القاسم المشترك بين الدول الثلاث أنها جميعها اكتوت بالإرهاب الأعمى على مراحل، ولا تزال تواجه التحديات والتهديدات التي زادت شراسة بفعل عدوى الجوار، وبخاصة الانفلات القادم من ليبيا ومنطقة الساحل جنوب الصحراء، وتمدد تنظيم ما يعرف بـ «الدولة الإسلامية» إلى أبعد الأماكن احتمالاً. لا سيما أن «متطوعين» يتحدرون من الشمال الأفريقي باتوا يشكلون إلى جانب مقاتلين من جنسيات عربية وأجنبية العمود الفقري للتنظيم الإرهابي.
لكن تونس خطت قدماً عندما انضمت إلى دول عربية وأفريقية ترغب في الإفادة من تجربة المغرب في تأهيل الأئمة، على غرار عواصم أوروبية رأت في مقاربة تطهير الحقل الديني من شوائب التطرف والمغالاة والعنف والإقصاء، بداية مشجعة. ولم تكن الجزائر استثناء في تجديد الفكر الإسلامي الذي رعته ضمن مشروع مجتمعي في سبعينات القرن الماضي، لولا أنها تأثرت مثل صنواتها المغاربية والعربية بحركة النزوح إلى الجهاد في أفغانستان التي شكلت بداية تبلور إسلام أكثر تشدداً. بينما يرى باحثون أن تجربتها في تعريب التعليم كان لها بعض الأثر السلبي، على اعتبار أن خطوة بهذه الأهمية تتطلب إعداداً جيداً في المناهج والكوادر والتركيز على الانفتاح.
سياسياً، لم يسلم الحقل الديني بدوره من تداعيات الخلافات القائمة بين الجزائر والرباط. فقد بدأت من ملف الصحراء ثم تطورت إلى إغلاق الحدود، وشملت مواقف واتجاهات برزت في التعاطي مع الملف الإرهابي والأوضاع في الساحل الأفريقي. ولا يبدو أن فكرة تأهيل الأئمة والمرشدين تظل بعيدة من هذا المنحى، أقله أن الليبيين والتونسيين والماليين والسينغاليين أبدوا انفتاحاً في هذا السياق. وفي إمكان الجزائر أيضاً أن تضطلع بدور في معركة تنقية الممارسات الدينية، إن لجهة إبقاء المساجد بعيدة من النزعات السياسية أو لناحية قيام حوار شامل بين علماء الدين في منطقة المغرب العربي الذين يلتقون في وحدة العقيدة والمذهب لاستخلاص ما يمكن من رؤى تكفل تخلص المشهد الديني من سوء الفهم وبؤس التأويل.
دائماً كان المغاربيون من طنجة إلى السلوم يرددون أن الوحدة المغاربية لها جذور عقائدية ولغوية وثقافية وتاريخية، كفيلة بالارتقاء بالمشروع الوحدوي إلى آفاق أرحب. وإذ يقارنون بين تجربتهم هذه والتطورات التي آلت إليها العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي التي خاضت حروباً عنيفة فيما بينها، يستأنسون بأن الأقدار جنبتهم هذه الويلات. إلا أن المشروع المغاربي يراوح مكانه من دون ظهور أي بارقة أمل.
توزعت الاجتهادات والرؤى بين من يريد الاتحاد المغاربي على قياس التجربة الأوروبية التي بدأت من السوق المشتركة، وبين من يريده سياسياً يكفل درجة عالية من تنسيق المواقف. لكن فكرة مغرب الشعوب التي طرحت بديلاً لمغرب الأنظمة لم تتبلور في سياق حراك ما يعرف بالربيع العربي.
بقيت فقط العودة إلى النبع الديني، وليس أقرب من تجربة تأهيل الأئمة والمرشدين مجالاً لبعث الروح في مشروع لا يظهر منه عملياً إلا اسمه خافتاً في زحمة خلافات شملت مربعات عدة.