محمد الأشهب
إن لم يكن من حسنات الربيع العربي سوى أنه دفع بالحاكم لأن يمتثل لأحكام القضاء فتلك علامة توحي بأن تغيراً كبيراً في طريقه لاستبدال صورة الحاكم الذي لم يكن يعتبر نفسه فوق القانون، بل إنه القانون بعينه.
الرئيس التونسي منصف المرزوقي خرق القاعدة وقدم شهادته أمام قاضي التحقيق في ملف اغتيال المعارض شكري بلعيد. لم يحل وضعه الاعتباري دون الاستماع إلى إفادته كمواطن عادي، بل إن مركز نفوذه يضفي أهمية بالغة على مسار التحقيقات التي بات عسيراً أن تستثني أي جهة تحوم حولها الشبهات.
ولأن القضية تصنف ضمن فصول الاغتيالات السياسية التي دأبت على تنفيذها أجهزة استخبارات ومصالح ضمن مسلسلات تصفية المعارضين والخصوم السياسيين، فإن شهادة المرزوقي انبرت إلى إحياء نزعة المناضل الحقوقي في كيان شخصية الرئيس التي لم يغيرها المنصب. وهذا في حد ذاته دليل على أن المسؤول الذي تحمله صناديق الاقتراع يظل أقرب إلى نبض الشارع. وإن كانت باقي التجارب ليست ناصعة إلى هذا الحد.
في ملفات اغتيالات سياسية من المهدي بن بركة إلى موسى الصدر، ومن كيخيا المعارض الليبي إلى رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري لم تتقدم التحقيقات ولم تسلط الأضواء على مناطق العتمة، لأن الحاكم كان «منزهاً»، ولم يكن القضاء الذي يفترض أنه سلطة مستقلة في وارد الاقتراب من قصره أو حاشيته أو أجهزته، وإن حامت الشبهات حول تورط محتمل لهذا الرئيس أو ذاك. ومع افتراض أن بعض الأحداث دبرت لفرض الأمر الواقع، فإن مبادرة الرئيس التونسي تروم القطع مع الحياد السلبي لأي مؤسسة. طالما أن البحث عن الحقيقة يلزم تعاون كل الأطراف ويحتم استنفاذ كافة الطرق. وإنها لصورة معبرة بأقصى درجات التباين، إذ يمثل الرئيس المصري حسني مبارك أمام عدالة بلاده بتهم القتل والفساد، أو يقف الرئيس العراقي السابق صدام حسين في قفص اتهام نصب في قصره أو يتعرض العقيد معمر القذافي إلى شريعة خارج القانون. بينما يختار منصف المرزوقي أن يترجل في اتجاه قاضي التحقيق مطمئن البال ومرتاح الضمير.
أقرب إلى الصورة أيضاً أنه في الوقت الذي ينشغل فيه المصريون بمعارك سياسية وقضائية لا تستثني وضع النائب العام المعين، في سياق تفعيل خيار استقلالية القضاء، يأبى المرزوقي إلا أن يعزز التوجه لتكريس هذا الخيار بنفسه، من خلال تقديم إفادته في قضية شائكة. والحال أن رئيساً آخر فقد شرعيته اسمه بشار الأسد ورد تورط محتمل لاسمه وبلاده في قضية اغتيال رفيق الحريري لا يتوانى عن تقديم أدلة إضافية بنزعة دموية تفوق جرائم الحرب والإبادة.
والأهم في المبادرة التونسية غير المتوقعة في زمن آخر أنها تفسح في المجال أمام الاستماع إلى إفادات زعامات حزبية وتنظيمات سياسية ونشطاء في المجتمع المدني لرصد معالم الطريق التي يمكن أن تؤدي إلى جلاء الحقيقة. كونها المرة الأولى التي يضطر فيها القضاء في بلد عربي إلى استخدام صلاحياته كاملة في أطوار التحريات، بلا انتقائية أو توجس، طالما أن الحقيقة وحدها في إمكانها أن تنصف الأبرياء وتدين المتورطين المحتملين.
أبعد من أشواط التحقيقات التي كان للرفض الشعبي أثره في تسريع وتيرتها، على خلفية التظاهرات الاحتجاجية العارمة التي تناهض استخدام العنف وتصفية المعارضين، أن إشكالات القضاء في بناء دولة ما بعد الثورة باتت مطروحة بحدة. فقد أخفقت الثورة الليبية إلى الآن في تأمين محاكمات عادلة وشفافة لرموز النظام المخلوع. وفي مصر أيضاً لا يزال الجدل مستمراً حول التزام الاستقلالية الكامل لمنظومة العدالة.
والراجح أن الرئيس المرزوقي بخلفيته الحقوقية التي أهلته لأن يحظى بتقدير مناصريه وخصومه على حد سواء أراد توجيه رسالة بليغة بهذا الصدد، مفادها أن القضاء العادل والمستقل شرط أساسي لبناء الدولة العصرية. ولعل في اختياره تقديم إفادته أنه لا يكتفي بإدانة العنف وتصفية المعارضين والتضييق على حرية التعبير، بل تحمل إشارة قوية إلى رفض الإفلات من العقاب، مهما كانت هويات المتورطين في الجرائم السياسية.
من بين ركام ثورات الربيع العربي التي يكاد يغلب عليها اليأس، تأتي مبادرة منصف المرزوقي. فثورة تونس اندلعت ضد الظلم والطغيان بهدف تكريس الحرية وصون مظاهر التعددية السياسية ورفض الاستئثار بالحكم وتأهيل منظومة القضاء للاضطلاع بدورها في حماية قيم الثورة.
نقلاً عن جريدة "الحياة"