اهتزاز قلعة «الفيفا»

اهتزاز قلعة «الفيفا»

المغرب اليوم -

اهتزاز قلعة «الفيفا»

محمد الأشهب


زلزال «الفيفا» ليس حدثاً يقع في كل حين، إنه أشبه ببركان لا تشرئب الأعناق والجهود لإطفائه والابتعاد عن لهيبه ما أمكن، بل لمعرفة المزيد عن خلفياته وأسراره، كونه ضرب القلعة الحصينة لنادي كبار المتنفذين في عالم المنافسات الرياضية، بعد أن أصبح الاتحاد الدولي لكرة القدم قوة تتحكم بشرايين اللعبة الساحرة التي وحدت شعوب الكون، أغنياء وفقراء، دولاً متقدمة وصاعدة وأخرى لم تغادر براثن التخلف.
في الرياضة يتساوى البشر، إذ تستطيع أفقر دولة أفريقية أن تحصد جوائز السبق في ألعاب القوى، ولا تتمكن أعتى قوة اقتصادية وعسكرية، مثل الولايات المتحدة أن تظفر بكأس العالم. لكنها أفلحت في استخدام الرياضة لاقتحام عوالم مناوئة، مثل الصين أو الاتحاد السوفياتي سابقاً. وقبل أن ترتدي مسألة الدفاع عن حقوق الإنسان أبعاداً كونية، كان اللاعبون السوفيات يفرون من موسكو ويطلبون اللجوء في بلد العم سام.
مثل أي صناعة لها منتوجها وزبائنها وأسواقها المرحبة أضحت كرة القدم عالما قائماً بذاته، وكما الشركات المتعددة الجنسية تغزو الأسواق وتجلب الأرباح وتحطم منافسيها بطرق عدة، صارت «الفيفا» تفرض سطوتها على الاتحادات الكروية والإقليمية، تلوح بالعقوبات وتتخذ المواقف، وتهفو الدول لاستمالة أصواتها، بخاصة عندما يتعلق الأمر باستضافة مونديال كرة القدم. لأنه لم يعد تظاهرة رياضية فحسب، بل حدثاً سياسياً واقتصادياً وتجارياً وثقافياً، يخضع لتصنيفات تطاول مظاهر الاستقرار ومستوى الاستهلاك ونسبة النمو وحجم الأسواق التي تتجه نحوها شركات صناعة الإعلان والتسويق والعلاقات العامة.
نشأت المدارس ومعاهد التأهيل الرياضي والكروي الذي يبدأ في سن مبكرة لاكتشاف المواهب والمهارات، وصار الاستثمار في إعداد الأبطال والنجوم مثل أي تجارة لها قوانين ومقتضيات، تمكنها من النفاذ إلى عالم الاستهلاك، حتى أن عولمة كرة القدم تجاوزت عولمة الفكر والقيم. ولم يعد انتساب الفرق والمنتخبات حكراً على حملة الجنسيات وجوازات السفر. فالفريق الناجح يسلب العقول والمشاعر، بصرف النظر عن أي تقسيمات جغرافية أو لغوية أو إثنية. إلا أن طعم المونديال يختلف مذاقه حيثما التأم. فالناس يلاحقون الكرة كما الآمال والرهانات ومتعة الفرجة والانبهار.
ربما كان المغرب تحديداً في مقدم البلدان العربية التي خاضت غمار منافسات استضافة المونديال مبكراً. أسعفها في ذلك أن وصول منتخبها الكروي إلى مربع المنافسات في مكسيكو أفسح في المجال أمام دخولها غمار التأهل. وليس مصادفة أنه في الوقت الذي برزت هذه الرغبة التي كانت تعوزها الإمكانات على صعيد وفرة التجهيزات والمرافق والتقيد بدفتر التحملات التي تشمل البنيات والمناخ والمواصلات والمنشآت السياحية، غامر المغرب بطلب عضوية الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، قبل أن يقنع بصفة الشريك ذي وضع الأفضلية في العلاقات مع بلدان شمال البحر المتوسط.
لم يكن التلازم تلقائياً، إنما أملته النظرة إلى التأثير الإيجابي لحدث استضافة المونديال، إذ يصبح بالنسبة إلى البلدان الصاعدة أقرب إلى مشروع إعمار كبير، ينقلها إلى مصاف متقدمة، ولم تغب صورة إسبانيا عن خيال المغاربة، فقد حققت إقلاعها الاقتصادي بفضل الانضمام مبكراً إلى السوق الأوروبية المشتركة، وتمكنت من خلال احتضان التظاهرة الرياضية الدولية من توفير بنيات وتجهيزات ومرافق متطورة، وإن لم تصمد مثل غيرها من البلدان الأوروبية أمام إعصار الأزمة الاقتصادية والمالية التي ما زالت تلقي بثقلها على مجمل الأوضاع في شبه الجزيرة الإيبيرية.
تطلعات الدول الصاعدة في أفريقيا والعالم العربي وأميركا الجنوبية وآسيا لاحتضان التظاهرة، يختلف إلى حد ما عن سيرورة الرسو على البلدان الغربية المتقدمة. إلا أن اندلاع موجة الفضائح في عقر «كونغرس» اللعبة الكروية الساحرة، يشير إلى خضوع المنافسات لمقاييس غير موضوعية، ولا يعني اهتزاز قلعة «الفيفا» سوى أن فيروس الفساد القاتل لم يترك مجالاً إلا واستوطنه، بما في ذلك عالم الرياضة التي يقال عادة أنها أخلاق وقيم. فهل بعد هذا يحق الحديث عن مبادئ المساواة وتوازن العوالم والمنافع؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اهتزاز قلعة «الفيفا» اهتزاز قلعة «الفيفا»



GMT 14:47 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 14:46 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 14:44 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 14:42 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

GMT 14:40 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:01 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 13:59 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تغييرات في تفاصيل المشهد

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
المغرب اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 01:49 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

المغربية عزيزة جلال تعود للغناء بعد توقف دام 30 عامًا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib