قبل أسابيع طلب السيد حسن نصر الله من أنصاره وعائلاتهم أن يستغنوا عن استخدام التليفونات النقالة، وأشار إليها بتعبير "عملاء"، أي تلك الأجهزة، ولكنه لم يستطع أن يتنبأ بأن الضربة سوف تأتي من مأمنه "البيجر" وأجهزة اللاسلكي! وإن دل ذلك على شيء فعلى الهوة في فهم العالم المعاصر الذي يعتمد على العلم والتقنية، والهندسة الاجتماعية، وليس على إطعام الجماهير كماً هائلاً من الشعارات، وهي هوّة عميقة.
كمٌّ ضخم من التحليل استمعنا إليه في وسائل الإعلام، حول كيف حدث ما حدث في "غزوة البيجر"، كل يوصّف الموضوع من وجهة نظره، وفي الحروب عادة تكون هناك وجهات نظر مختلفة يستطيع أن يتفهمها العاقل ويفرز ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، المهم هنا ليس التحليل النظري لكيف تم الحدث، المهم ما حدث على الأرض من نتائج، وهي أن عدداً كبيراً من مقاتلي "حزب الله" أو مسانديهم تم إعطابهم على حين غرّة، بطريقة لم تكن متوقعة، سوف يتحدث عنها تاريخ الصراعات طويلاً.
المعركة كبيرة، سواء في غزة أم في لبنان، وهي قاسية وقاصمة للظهر. منظر اللبنانيين المطروحين في الشوارع بسبب تفجيرات "البيجر" يذكّرنا أيضاً بأن هناك قطاعاً كاملاً اسمه غزة تم تقريباً محوه وبشره من على الأرض، الحرب هي الحرب، وهي ليست نزهة.
الاقتراب من المشهد يجعلنا نعيد التفكير في عدد من المسلّمات، كان كثيرون قد أشاروا إليها وهي"الانشطار" أو "التفرع الثنائي" في جبهة المواجهة.
ما أمامنا أن هناك دولة اللادولة في لبنان، دولة بلا رأس، وليس من المتوقع أن يكون لها رأس في القريب، دولة أنهكتها مؤسسات ما قبل الدولة التي يشار إليها في بعض الأدبيات على أنها الدويلة التي تُسيّر الدولة.
من الواضح أن المعركة برمّتها غير متكافئة، فحتى موجة التعاضد التي شهدناها في بعض المؤسسات الغربية، وبخاصة في الجامعات مع ضحايا ما يحدث من مجازر في غزة، بدأت تتراجع، وبعضها انتهى إلى لا شيء، كما أن الخسائر على الأرض باهظة، وكل ما هو على الساحة صياح لفظي وترديد شعارات بعضها قريب إلى الشعوذة، السبب أنه ليس هناك توافق وطني، لا في لبنان ولا لدى الفلسطينيين.
مثلاً في لبنان، ليس هناك اتفاق وطني على تحويل لبنان إلى هانوي. شريحة من اللبنانيين ترغب في العيش في دولة لها قدرة على الاهتمام بحياتها واقتصادها، من دون تهديد فريق معين بالسلاح من أجل الإذعان، لقد قُتل في لبنان عدد من الشخصيات بدم بارد، من رفيق الحريري إلى لقمان سليم، وما بينهما من رجال أرادوا أن يصوّبوا مسيرة وطنهم، تلك الاغتيالات وتعطيل الدولة تمثل جرحاً نازفاً في خاصرة الحزب، حتى لو تجاهلها.
وليس من الخفي أن حرب "حزب الله" لم تحرر شبراً من فلسطين. وجوده، كما وجود الميليشيات الأخرى، هو لخدمة مشروع إقليمي لم يعد خافياً على أحد، كما أن العمل العسكري في غزة لم يحقق أي هدف سياسي، رغم التضحيات الضخمة التي كان ضحيتها أبناء غزة وبناتها وأطفالها.
المشهد في الساحة اللبنانية هو نفسه في الساحة الفلسطينية، سمته الانشطار لأن كل فريق متمسك بشعارات ليست لها نتائج إيجابية محتملة. إيران تقوم بالتجهيز والتمويل والتسليح، ولكن التقنية شيء آخر مختلف، والفكر الذي يقود البندقية، كلما كان خرافياً كان بعيداً عن التصويب. من جهة أخرى، كلما خرجت أصوات تنادي بالاقتراب العقلاني من المشهد الملتبس والصراع القائم، انهالت عليها اللعنات، حتى وسائل الإعلام التي تسعى لتقديم الحقائق توصف بأنها عبرية احتقاراً، ليس لها، ولكن للحقيقة.
هناك ثلاثة عوامل معطلة لا يراد الاعتراف بأهميتها في هذه المعركة المستمرة، الأول المجتمعات المتشظية في داخلها، والثاني القوى المقاومة التابعة إلى ما خلف البحار، والثالث افتقاد التفكير العلمي ومنه توطين التقنية المتقدمة، العناصر الثلاثة مفتقدة ومن زمن طويل في ما يعرف بـ"جبهة المقاومة"! فكيف يمكن مواجهة عدو صفوفه الداخلية موحدة وخلفه دول كبرى ويملك التقنية المتقدمة؟
في هذه الأجواء، فإن الخسائر سوف تستمر والنزيف سوف يتوسع والخسائر تدفعها الشعوب، وليس أكثر رعباً من مشاهدة الصور التي صدرت من بيروت وقت هجمة "البيجر" ومن ثم أجهزة الاتصال البينية، صور تقول لمن يريد أن يفهم كم هي عبثية تلك الشعارات، فليس لدى قادتها الحد الأدنى من حماية مناصريهم الذين يأتيهم الموت بغتة!
ليس لدي حل، ولكني على يقين من أن المجتمعات المنشطرة، والمنقسمة على نفسها داخلياً، والتي تؤتمر من الخارج وتفتقر إلى التقنية المتقدمة والقيادة الراشدة، لا تستطيع أن تحقق أي انتصار. لقد قال السيد نصر الله في أحد خطاباته إن أهم خطاب ألقاه في حياته هو الخطاب الذي شتم فيه المملكة العربية السعودية، ذلك التصويب يدل على فقدان الرشادة السياسية، والعمى في اتجاه البوصلة!!
* نقلا عن " النهار"