بقلم : فيصل مكرم
ثمَّةَ مؤشراتٌ إيجابيةٌ تبعث الأمل في حلحلة الأزمات في منطقتنا العربية والإقليم، وانفراجات في علاقات الدول قد تؤدي إلى إخماد الحرائق إذا ما استمرت التفاهمات والمساعي الراهنة بين دول المنطقة والإقليم بشأنها، انطلاقًا من مصالح تفرضها المتغيراتُ التي يشهدها العالم، وقد استبشرنا مؤخرًا بحدوث انفراجات لأزمات مزمنة في المنطقة، وفي مقدمها الأزمة اليمنية، وعودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية بعد التقارب السعودي الإيراني وعودة العلاقات بينهما بوساطة وضمانات صينية، ولم تتوقف الجهود لإنهاء الانقسام الحاصل بين القوى الليبية، والمساعي الماراثونيَّة لتطبيع العلاقات المصرية التركية، والتركية السعودية، وكلها تعطي المتابع مؤشرات على تغيرات مهمة قادمة في هذه المنطقة، غير أن التطورات الطارئة والمحزنة التي يشهدها السودان والتي لم تكن متوقعة بهذه الوتيرة منذ ثورة الإطاحة بالرئيس عمر البشير ونظامه قبل نحو أربع سنوات، وهذه التطورات العسكرية الخطيرة للأسف دخلت عليها حسابات سياسية وجهوية وعسكرية ومصالح شخصية عقدت مشهد الانتقال السلمي إلى الدولة المدنية وتحييد المؤسسة العسكرية، عندما تفجَّر الوضع عسكريًا يوم السبت الماضي بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى تنتشر فيها قوات الدعم السريع التي تقدم نفسها بديلًا للجيش الوطني السوداني.
قوات الدعم السريع (شبه العسكرية) تم تشكيلها من قبل الرئيس المخلوع عمر البشير لتؤدي مهام عسكرية يكلفها بها في دارفور ينأى الجيش السوداني عن القيام بها مباشرةً، ولكن قادة الجيش هم من دربوها وسلحوها وحددوا مواقعها، وبالتالي تم إنشاء هذه القوات على عين الجيش، وقبل ثورة التغيير بسنوات استدعى البشير الجنرال حميدتي ومعظم قواته للتمركز والانتشار في العاصمة الخرطوم ومعظم المدن السودانية لمواجهة أي احتجاجات أو تحركات شعبية مناهضة لحكمه بموافقة قادة الجيش وبالتنسيق معه لوجستيًا، فكانت هذه القوات هي من انقلب على البشير وسهلت وصول الجماهير الغاضبة إلى مقر قيادة الجيش، وبعد سقوط البشير تولت قوات حميدتي قمع الجماهير التي تظاهرت للمطالبة برفض حكم الجيش والمطالبة بحكومة مدنية منتخبة، وكانت قوات الدعم السريع نسقت مع القوات المسلحة لإسقاط حكم البشير وإعلان مجلس السيادة لاحقًا برئاسة قائد القوات المسلحة الفريق البرهان بمشاركة قوى التغيير المدنية التي تخلت حينها عن حقها في منصب نائب الرئيس لقائد الدعم السريع الذي يبدو أنه فرض نفسه على هذا المنصب، وفي تطور لاحق خلال الأسابيع الماضية رفض الجنرال حميدتي دمج قواته في القوات المسلحة وعلل ذلك بأنه سيؤدي إلى تفكك السودان، وعمل على جعل مكونه العسكري يتبع رئيس الوزراء عند تسليم السلطة للقوى المدنية، وهذا ما أثار حفيظة الجيش الذي يقول: إنه لا منطق في بقاء تلك القوات القادرة على الحركة في المدن والمناطق المفتوحة خارج سيطرة القوات المسلحة، ما فاقم الخلاف بين البرهان وحميدتي لتندلع المواجهات صباح السبت في الخرطوم وعددٍ من المناطق والمدن.
▪ورغم أنَّ المواجهات المؤسفة قد حسمت كل قول وتجاوزت كل الوساطات والوسائل السلمية لإنهاء النزاع بين مكونات الجيش السوداني، فلابد من القول إن ما يشهده السودان اليوم يمثل علامة فارقة وخطيرة على مستقبل البلد وسيادته ووحدته وأمنه واستقراره، ويضاعف مشاهد الانهيار والمآسي في عالمنا العربي في وقت نحن أحوج إلى التضامن وإلى السمو فوق الجراح وتجاوز الخلافات وترشيد المصالح الشخصية، وبالتالي فإن ما يشهده السودان هو صراع لا يخدم شعبه ولا يحقق تطلعاته، وهنا لا بد من القول إن الجنرال حميدتي الذي يبدو أنه يلقى دعمًا خارجيًا قرر إزاحة القوات المسلحة من طريقه ليتمكن من الوصول إلى حكم السودان كخيار جنوني لن تقبل به القوى الوطنية ولا غالبية الشعب -كما يرى مراقبون- إن لدى حميدتي خيار آخر وهو السيطرة على دارفور وفصلها عن السودان وإعلانها دولة انفصالية وإن صح هذا الخيار فإن الرجل في حالة طموح هستيرية تفرض على الشعب السوداني الاصطفاف مع قواته المسلحة لإفشال هذا المخطط الكارثي.
▪السودان بلد عربي عزيز على قلب كل عربي من المحيط إلى الخليج، وبالتالي فإن على جميع الدول العربية التدخل فورًا لوقف هذه المعارك الكارثية، والوقوف مع الشعب السوداني، والانحياز الكامل لوحدة واستقرار وأمن السودان، وحقن دماء أبنائه وعدم السكوت عما يحدث في هذا البلد العربي حتى لا تتسع رقعة الصراع وتفتح أبواب التدخلات الخارجية التي تزيد الوضع تعقيدًا، ولكي لا يسقط بلد عربي آخر في براثن صراع وحروب أهلية، والحفاظ على مكاسبه ومؤسسته العسكرية كونها ضمان الدولة واستقرارها وسيادتها قبل فوات الأوان.