بقلم : دلال قنديل
مضت ثلاث سنوات وذبذباتُ القلق تعبرُنا كلما أيقظ نعاسَنا وجهُ الطفلة "الكسندرا"بين الضحايا او هزَنا نداءُ أم تبحث عن ابنها "بعيونه العسلية" أو تناهت الينا إستغاثة من تحت الركام وطاف موج البحر بنا قبالة مرفأ بيروت بعيون ضحايا التفجير المحدقة للسماء. يراودنا ذاك الشعور بالنقصان على الغالب كلما زرنا الاشلاء المتبقية على شكل وطن.
لولا وجوه بعض الاصدقاء والأحبة لكان الوطن جحيماً بعينه،لا مكانَ لحياة فيه.
الرابع من آب ٢٠٢٠ ليس تاريخاً للنسيان ولا لتمجيد الضحايا هو يوم إنفصل فيه الرأس عن الجسد.مازلنا منذ تلك اللحظات المزلزلة نسير على قدمين بلا عقل يزودنا بأفكار او يقودنا للتجاوز ،مهما إبتعدنا.
شعورُنا بالذنب وعقدة العجز عن مواجهة الحقائق هي لعنة اعمارنا في وطن لم يَعرف فيه العقابُ يوماً طريقَه الا للضحايا.
توقف الزمن عند تلك اللحظة، صفارة قرب نافذة مطبخي قطعت حديثي مع إبنتي،كنت قد عدت للتو من ورشة عمل لمؤسسة" بي. بي. سي" عن مواجهة خطاب الكراهية في الاعلام اللبناني، كنت قد لبيتُ دعوةَ صديقتي الاعلامية الدكتورة زاهرة حرب .
أمرن نفسي على محاولة إستعادة الوقائع بتفاصيلها، ربما تساعدنا الكتابة أكثر من الكلام.تقول النصائح النفسية إنها إحدى تمارين التجاوز ، أن نسعى لرسم المشهدية خارج زوايا ذواتنا المظلمة.
ظننت للوهلة الاولى الصفارةَ دوي طائرة حربية معادية تنفذ غارة على مكان ما بمحاذاة المنزل.
بلمح البصر تزلزلت الارض، توقفت ساعتي بفعل إرتطام معصمي ،لم افلح بتصليحها لاحقاً رغم ارسالها لصانعيهاالسويسريين.إستعادت عقاربها بعد التصليح زمام الزمن ليومين، لتتوقف عند تلك اللحظات مجدداً عند السادسةمساء ودقيقتين.
توالت الاخبارُ عن حجم الزلزال ، الفجوة قرب القلب بدأت تكبر كلما تكشف حجم الحدث المهول وصور الضحايا.
خواء،فراغ هو شعور الذهول الذي خرجت فيه عن الوعي في تلك اللحظة، هرولت حافية القدمين ألاحق ظل حفيدي الرضيع.حفيدي الذي لم يكن قد أكمل عامه الاول كان بعمر والده الذي إختطفته في ثمانينيات القرن الماضي من جحيم الحرب وهاجرت بعدما قُصف منزلنا في شارع بلس في منطقة الحمرا.كان إسمها "حرب الإلغاء" .
لم يكن اليورانيوم قد دخل قاموس وحشية حروبنا.
الرابع من آب جعلنا عبرة في انظارِ العالم بعدما شهدنا الانفجار المدمر الثالث في العالم.
فقاعةٌ صفراء غبشَت أنظارَنا، مضينا، عائلتي وانا لنعود بالطفل الذي كان بعيداً ،عيناه ما كانتا بألقهما المعتاد، ذاك الخوف الأخرس أطل منهما.
تحضنه والدته ودموعها لا تتوقف.
لن يفوتنا في الاستعادة ان تلك اللحظات المرعبة وُلدت من رحم فساد اطاح بمدخراتنا وافلس مؤسستنا ودمر احلامنا بانتفاضة أُجهضت ليبقى القيمون على السلطة أسيادَ الواقع الذي صنعوه.
ثلاثة اشهر بقيت حبيسةَ مكتبي اقرأ وأكتب خلف جدران عازلة. أتابع إعداد التقارير الاخبارية والبث المباشر كل يوم في تلفزيون لبنان ،حميت زملائي من إنهياري ،او هذا ما خُيل لي ، ربما في تلك اللحظات لم يكن ينفعنا الا الالتفاف على ذواتنا كمن يعود لوضعية الرحم في النوم بهدف الاحتماء.
لا كلام يوازي صور الضحايا، لهاثهم تحت الانقاض، ايدي العجزة تضمد الجروح المفتوحة وتضغط، تضغط بقوة العاجز عن وقف النزيف والدم المتدفق لأقاربهم توفوا على عتبات منازلهم ولم تصل اليهم ايدي المنقذين ولا إقتادتهم "عجلات الموتيسكلات" التي نقلت ندرة الى أقرب مركز صحي او مستشفى.
بقيت تلك الصور تحضرني كالكوابيس لأشهر تحرمني النوم.
أدرت ظهريَّ للبحر الذي أحببت، كانت وجوههم تخالط موجه، ودموعي تحرمني إلقاء التحية حتى لأرواحهم.
أشهر فاضت دموعنا قهراً، بقينا ننتظر يوم المحاسبة علنا نفلح في الطبطبة على افئدتنا المجروحة ، علنا ننجح في لململة اشلاء ارواحنا المتشظية...
عبثاً، وهانحن بعد ثلاث سنوات، الحزن لا يواسينا لكنه يجعلنا أقدرعلى الابتعاد.
أكثر ما يعذبنا اليوم العجز عن إجتراح مواساة ولو بكلمة تخفف من لوعة أهل وأحباء شهيد.كم من العائلات إنهارت حيواتها؟ أي كلمات قد تنجح في المواساة ؟ السجون فارغة والقَتَلة يحاضرون برفع المسؤولية عن أنفسِهم،لا بل مازالوا يتنازعون على المناصب والثروات ، يتبارون في تقديم الوعود .
ثلاث سنوات مرت ،مكان الجريمة وذاك المسرح المهشم هو الصورة الاولى التي التقطُها في اليوم الاول لزيارتي بيروت.
بعد كل هذا الاسى هل ننجو ؟ هل ننجح بالابتعاد؟ لا جواب رغم أن الشواهد قد تكون عديدة بأن الاسى المجبول بخلايانا يصعب إنتزاعه.لكننا على الاقل بالابتعاد نكرر المحاولة، على الاقل لنبقي شعلة امل بأنه يوماً ما سيكون على هذا الكوكب عدالة تعيد لنا كرامتنا الانسانية.
في الرابع من آب وبعد ثلاث سنوات على الزلزال الذي عبث بي وبمئات الآلاف من وطني، أتأمل عقارب الساعة الفلكية في ساحة مدينتي الايطالية الجميلة بادوفا ،أتمعن بحكمة صانعها الذي دفعه إضطهاد القيمين على عمله لتجاوز رمز الميزان في الابراج الفلكية التي تلف الساعة الاثرية البديعة. فهل من عدالة تتصفنا يوماً ما؟.