بقلم - عبد الرحمن شلقم
حرب عالمية تطوف بأرجاء الدنيا اليوم، لكنها حرب غير مسبوقة في درجة حرارتها، وإن يجهل الناس كل الأطراف التي تخوضها. لا توجد قارة من قارات العالم الخمس لا ترتفع فيها زوابع النار والبارود. حربان عالميتان شهدهما العالم في النصف الأول من القرن الماضي. تحالفت فيهما أطراف، ولكن بعد انتهاء الحرب الثانية، نشبت حرب بين مَن كانوا حلفاء ضد دول المحور. حرب أُطلق عليها اسم، الباردة. لكننا اليوم وسط حروب عالمية، لا أحد بقادر على قياس درجة حرارتها. فهي باردة وساخنة في الوقت ذاته.
الحرب حقيقة كامنة في حياة البشر. لا نحتاج إلى قراءة عشرات المجلدات التي تسكن في سطورها حروف تتحرك وسطها الدماء والمآسي منذ آلاف السنين. تتغير طبيعة المواجهات بين البشر بتطور القدرات الحربية. من الخناجر الحجرية إلى السيوف والرماح والنصال، إلى ما بيد الدول اليوم من أسلحة لها قدرة على قتل الملايين في ثوانٍ قليلة.
مباشرة بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية نشبت حرب بين حلفاء الأمس.
المفارقة، أن الذين قادوا قوات الحلفاء في أوروبا في الحرب العالمية الثانية الساخنة، ضد الفاشية والنازية، وهو الجنرال دوايت إيزنهاور الذي صار رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، هو نفسه الذي قاد الحرب الباردة الأولى، وفي المقابل واجهه في الحرب العالمية الجديدة، من كان حليف الأمس جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفياتي. قائدان في حربين، الأولى ساخنة والأخرى باردة. هبّت براكين تدافع جمرها في شبه الجزيرة الكورية، آيديولوجيا مسلحة تحالف فيها الاتحاد السوفياتي مع جمهورية الصين الشعبية الشيوعية التي برزت إلى الوجود في آخر سنة من أربعينات القرن الماضي، ضد الغرب الذي طاف حوله الرعب من المد الشيوعي، انتهت تلك المواجهة بتقسيم شبه الجزيرة إلى دولتين، جنوبية رأسمالية تدور في فلك الغرب، وشمالية شيوعية تتوارثها أسرة آل جونغ. انفجر البركان الثاني في فيتنام، وكانت الحرب الأهلية الدموية الطويلة بين الكتلتين، الغربية والشرقية، وانتهت بهزيمة الولايات المتحدة الأميركية وتوحيد شطري فيتنام، تحت قيادة الزعيم هوشي منه، أمين عام الحزب الشيوعي.
الولايات المتحدة الأميركية، رسّخت وجودها السياسي في بلدان أوروبا الغربية، التي نهجت طريق النموذج الليبرالي الأميركي، حيث دعمت الأحزاب السياسية الموالية لها، وحاربت الأحزاب الشيوعية فيها، ورسّخت وجودها العسكري بقواعد حلف «الناتو» الذي ضم كل دول أوروبا الغربية إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، أما اليابان فكانت التابع الصامت لذلك التكتل.
القارة الأفريقية التي نالت أغلب دولها الاستقلال من فرنسا وبريطانيا في مطلع ستينات القرن الماضي، أبدعت حروبها الخاصة. حروب أهلية وانقلابات عسكرية، مهندسوها المعماريون من الخارج، أما المهندسون المدنيون، ومواد القتال فهي إنتاج محلي. وما تحت ترابها من خامات، وما فوق أرضها من أخشاب الغابات، فيرحل طوعاً إلى مصانع الكبار في ما وراء البحار. تلك حروب لم تنل حتى اسمها.
قارة أمريكا اللاتينية، نالت حصتها من الصراعات الدامية، وعبرت دولها عواصف الانقلابات العسكرية، وكان للآيديولوجيا نصيبها. إسقاط سلفادور الليندي الرئيس اليساري المنتخب ديموقراطياً في دولة تشيلي بانقلاب عسكري، لم تتحفظ الولايات المتحدة الأميركية في التعبير عن مساندتها له. تبنت الولايات المتحدة الأميركية، سياسة الإنزال الأمني خلف الخطوط. أكبر مواجهة كبيرة بين الشرق والغرب حديثاً، كانت في أفغانستان. حرك الاتحاد السوفياتي تحت قيادة ليونيد بريجينيف، موالين له داخل الجيش الأفغاني للقيام بانقلاب عسكري، ثم أبدع سياسة الانقلابات الدموية المتوالدة، وتحولت أرض أفغانستان ساحة مواجهة بين الشرق والغرب. تدفقت دماء لسنوات، خاصة بعد سيطرة متطرفي «طالبان» على البلاد، وتحالفت معها مجموعة «القاعدة». الدعم الغربي للمقاتلين ضد القوات السوفياتية على الأرض الأفغانية، كان من أقوى العوامل التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي.
تفككت الكتلة الشرقية، وانهار حلف «وارسو» الشيوعي، وهيمن الغرب على المسار الدولي. توحدت ألمانيا، وانضمت دول شرق أوروبا إلى الكتلة الرأسمالية الغربية.
نيكولا روبير شومان، السياسي الفرنسي الذي ترأس مجلس الوزراء الفرنسي مرتين. كان مفكراً وسياسياً له رؤية مبدعة، وصفه البعض بالفيلسوف. كان أحد الفرنسيين البارزين الذين أطلقوا مقولة «أوروبا إما الوحدة أو الحرب». عاشت القارة العجوز حروباً على مدى قرون، لكن الحربين العالميتين الأخيرتين، كانتا مشهد الهول الرهيب، فقد تطورت الأسلحة وأساليب الحرب، وقُتل عشرات الملايين على أرض القارة الأوروبية. روبير شومان هو من قاد إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب وتطورت إلى السوق الأوروبية المشتركة، وتُوجّت بإقامة الاتحاد الأوروبي. انتقلت أوروبا الغربية إلى عالم آخر، قفلت كل أبواب الصدام والصراع بين أممها، غابت اندفاعات نابليون نحو المجد المسلح، وردمت عنجهية هتلر الآرية الجنونية، وقام كيان عملاق غيّر معايير التوازن في العالم. كائن عملاق آخر نهض في شرق الدنيا هو الصين. صنع عضلاته بقوة الاقتصاد. خلع رداء الآيديولوجية الشيوعية الماوية التي كلفت البلاد ملايين الضحايا. الصين لا تدخل اليوم في حروب ساخنة أو باردة مباشرة، وأبدعت سياسة الصبر الخلاق.
روسيا فلاديمير بوتين تقفز من خندق الطموح الحامل لثقل الماضي، إلى حلقات المغامرات المسلحة. من حربها في جورجيا وقبلها الشيشان، وضم شبه جزيرة القرم، إلى غزو أوكرانيا. حرب عالمية لها سخونة مرعبة. روسيا العظمى الدولة التي أنفقت الكثير لصناعة السلاح، تستجدي الطائرات المسيّرة من إيران، وتستقبل رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، كي يهبها بعضاً مما طورته من أسلحة، وهو الذي يتضور شعبه جوعاً، ويهدد جارته الجنوبية ومن حولها بالويل والثبور. العالم يتدحرج نحو حفرة الرعب الأكبر، حروب تتحرك حرارتها وخرائط ميادينها، فكيف ستكون الخاتمة، هل بسلاح القتل الشامل، أم يهتدي العالم بواقعية وعقلانية الدرس الأوروبي؟