فرنسا جديدة في أفريقيا قديمة

فرنسا جديدة في أفريقيا قديمة

المغرب اليوم -

فرنسا جديدة في أفريقيا قديمة

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

فرنسا قدر أفريقيا، أو جزء مهم منه. هذا ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه، الذي ألقاه يوم الاثنين، السابع والعشرين من الشهر الماضي، قبل الإقلاع نحو أربع دول أفريقية؛ الغابون وأنغولا والكونغو برازافيل والكونغو الديمقراطية.
الرئيس الفرنسي كان من المتوقع أن يلقي هذا الخطاب، في أول محطة له بالقارة التي لا تغيب عن فرنسا. تحدث الرئيس الفرنسي بلغة جديدة اتسمت بالمباشرة والصراحة. أكد في الخطاب أن هناك أزمة تعيشها العلاقة بين الجمهورية الفرنسية وعدد من الدول الأفريقية. الماضي الاستعماري، ما زالت له آثار في عقل الشعوب الأفريقية، خاصة الجيل الجديد.
الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سنغور، وهو المفكر والشاعر الكبير، قال إن هناك حبلاً سرياً يربط أفريقيا بفرنسا. ولم يقصد بالحبل السري المعنى الخفي، ولكنه قصد حبل السرة الجسدي. المعتاد أن يُقطع ذلك الحبل من جسم الطفل بمجرد ولادته. هل ولدت أفريقيا الجديدة، بعد حصول دولها على الاستقلال، وقطعت سرتها الفرنسية بعد خروج الحاكم الفرنسي، ورفعت الأعلام الوطنية وعزفت الأناشيد؟ ارتباط دول غرب ووسط أفريقيا بفرنسا، يختلف عن ذلك الذي بقي بين بريطانيا ومستعمراتها السابقة، ويختلف عن الحالتين الإسبانية والبرتغالية كذلك. لم يعد لهاتين الدولتين وجود عسكري أو اقتصادي يذكر في مستعمراتهما السابقة، باستثناء اللغة وشيء من الثقافة.
رؤساء كثيرون في غرب أفريقيا حاولوا أن يقطعوا ذلك الحبل السري، لكنهم لم يحققوا نجاحاً. الرئيس الغيني الأسبق أحمد سيكوتوري، قاد حملة سياسية خطابية ضد الوجود الفرنسي في غرب أفريقيا، وكذلك رئيس جمهورية مالي الأسبق الجنرال موسى تراوري، الذي انقلب على موديبو كيتا أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال، وكان من أهم الدوافع التي أعلنها مبرراً لانقلابه، تبعية رئيسه موديبو كيتا لفرنسا، وإجهاض حلم الشعب المالي في التحرر الكامل من الاستعمار.
تكرر ذلك الخطاب في البيان الأول لكل انقلاب عسكري تقريباً. لكن باريس تكون هي المحطة الأولى للقادمين الجدد، إلا في حالات قليلة.
اليوم هناك جيل أفريقي جديد، نال حظاً من التعليم، وكادت الأمية تختفي في بعض الدول، وكذلك وصول وسائل الإعلام المختلفة إلى أكبر شريحة من الناس.
كل ذلك حرّك الشعوب للمطالبة بتحقيق الاستقلال الثاني الحقيقي من الاستعمار الفرنسي. الخروج الكامل لفرنسا من كل دول غرب ووسط أفريقيا، ليس من السهولة بمكان، سواء لفرنسا أو لقادة تلك الدول. هناك آلاف من الشركات الفرنسية الكبيرة والمتوسطة، التي تمتلكها بالكامل أطراف فرنسية في هذه الدول، تستغل الخامات، وتوظف آلافاً من الأيدي العاملة، وتستورد كثيراً مما تحتاجه شعوب تلك الدول من السيارات إلى المواد الغذائية والطبية وغيرها. النخبة الحاكمة في هذه الدول، تربطها شراكة قديمة ومتجددة مع رؤوس الأموال الفرنسية المتغلغلة في هذه الدول. الوجود العسكري الفرنسي في دول غرب أفريقيا ووسطها، ما زال له حضور، وهناك أصوات تؤكد التدخل الفرنسي المباشر في تنصيب رؤساء بعض الدول. خمس عشرة دولة أفريقية عملتها «الفرنك السيفا»، التابع للبنك المركزي الفرنسي، وليس من السهل الانفكاك عنه. وتبقى اللغة الفرنسية متجذرة في عديد من الدول الأفريقية، وهي اللغة الرسمية، ولغة التعليم والثقافة. اللغة في ذاتها سلطة حقيقية أينما كانت. عملت جمهورية رواندا أخيراً لتغيير لغتها إلى اللغة الإنجليزية، لكن اللغة الفرنسية ما زال لها وجود كبير في وسط النخبة.
الرئيس ماكرون في خطابه الأخير، عرض برنامجاً يراه تأسيسياً، لعلاقة جديدة شاملة مع أفريقيا. لم يخلُ الخطاب من النقد الذاتي، حيث قال إن علينا أن نتواضع في علاقتنا مع القارة الأفريقية، وأن نتبنى سياسة الشراكة في كل المجالات بما فيها العسكري، وستكون القواعد العسكرية الفرنسية بأفريقيا، كليات للتعليم والتدريب العسكري للجيوش الأفريقية، وأعلن أنه يعمل على إصدار قانون يقضي بإعادة التراث الأفريقي الذي نُقل إلى فرنسا.
وقفات عدة في خطاب الرئيس ماكرون، أهمها «الشراكة» التي كررها عشرين مرة في خطابه، لكن الانتقال من الاستحواذ إلى الشراكة الشاملة، ليس بالأمر الهين. قال إن أفريقيا ليست حديقة خلفية لفرنسا، والحقيقة هي أن عدداً من بلدان أفريقيا كانت وما زالت حديقة خلفية لفرنسا.
لقد قدم الرئيس مراجعة نستطيع أن نقول إنها شاملة للسياسات الفرنسية في أفريقيا عبر عقود ما بعد الاستقلال. قال إن على فرنسا أن تتحلى بالتواضع، وهذا القول له معانٍ كثيرة، أهمها أنه أراد أن يقول، إنه لا يمكن تحميله وحده كل ما حدث من جانب فرنسا تجاه أفريقيا، في كل العقود التي مضت، ولمح بذلك إلى مسؤولية من سبقوه في منصب الرئاسة بفرنسا.
فقرات في خطاب الرئيس ماكرون، تكشف أن ما طرحه في مشروعه الجديد، كان رد فعل على تطورات، بعضها في داخل أفريقيا، وبعضها من خارجها. أولها الرفض الشعبي الذي ارتفع في بعض الدول، للوجود الفرنسي في أفريقيا، والأهم ما قاله إن فرنسا أصبحت «كبش محرقة» لما تعانيه بعض الدول الأفريقية، وأشار مباشرة إلى أن روسيا تقف وراء ذلك.
الحقيقة أن أفريقيا اليوم، تحركت نحوها قوى دولية، وأهمها الصين وروسيا وتركيا وإسرائيل. هذه الدول ليس لها ماضٍ استعماري في أفريقيا، وليس لها تدخل سياسي مكشوف في شؤونها الداخلية. فرنسا في معركة وجودها بالقارة السمراء، تواجه قوتين، الأولى تقودها نخبة شبابية ثائرة على ما تعتبره هيمنة استعمارية فرنسية على مقدرات أوطانها. والثانية اندفاع خارجي منافس لها من البوابة الاقتصادية، وفي الحالة الروسية، هناك الحضور العسكري في أكثر من أربع عشرة دولة أفريقية.
طرح ماكرون مشروعه الجديد قبل أن يحط بأرض أفريقيا، ولكن يبقى السؤال الأهم هو: ماذا سيحمل معه عائداً إلى باريس مختتماً رحلة مشروعه الأفريقي الاستراتيجي الجديد الشامل؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فرنسا جديدة في أفريقيا قديمة فرنسا جديدة في أفريقيا قديمة



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 15:47 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل
المغرب اليوم - منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل

GMT 16:06 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجات لم يشفع لها الذكاء الاصطناعي في 2024

GMT 08:33 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الطقس و الحالة الجوية في تيفلت

GMT 00:40 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

حطب التدفئة يُسبب كارثة لأستاذين في أزيلال

GMT 05:45 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

بنغلاديش تعتزم إعادة 100 ألف مسلم روهينغي إلى ميانمار

GMT 07:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

نادال يُنهي 2017 في صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib