حسن عريبي عبقري الوصل بالأندلسِ

حسن عريبي عبقري الوصل بالأندلسِ

المغرب اليوم -

حسن عريبي عبقري الوصل بالأندلسِ

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

 

حسن عريبي فنانٌ ليبي، وُلد بطرابلس وعاش بها صدر شبابه، وسط عائلة متدينة توارثت أجيالُها حفظَ القرآن، والانتماء إلى الزوايا الصوفية، حيث حفظت فيها المدائح وردَّدتها مع جموع المريدين. الموشحات فن عربي قديم، انتشر في المشرق والمغرب، وحافظ على مقاماته وإيقاعاته الأندلسية. الزوايا الصوفية وخاصة السلامية والعيساوية، كان لها انتشار واسع في جميع أنحاء ليبيا، حيث المدائح التي تصاحبها الدفوف والإيقاعات السريعة، ساهمت في تطوير نمط من الإنشاد له نَفَس ديني، يتمحور حول مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

الشاب حسن عريبي، تعلّق مبكراً بالجامع حيث حفظ ما تيسَّر له من القرآن، وتردَّد على الزوايا الصوفية، وشارك في ترديد المدائح. اشترى آلة العود وبدأ تعلم العزف، لكن والده غضب منه بشدة ونهره وكسر عوده. لكنه لم يفارق عشقه الكبير للموسيقى. رحل إلى مدينة بنغازي، وعمل موظفاً بوزارة المواصلات، وهناك واصل بحريّة نشاطه الموسيقي. تطورت قدراته، وتوسَّعت علاقاته بدنيا الفن وتعرَّف على عازفين ومطربين. بدأ يلحن الأغاني لمطربين سبقوه، وآخرين جدد اكتشف أصواتهم، وفي مقدمتهم الصوت الغنائي الليبي الرائع محمد صدقي. كانت «أغنية كيف نوصفك للناس وأنت عالي»، وهي الأغنية الأولى التي غناها محمد صدقي من ألحان حسن عريبي، كانت بداية لشهرة المغني والملحن. بعد سنوات عاد حسن عريبي إلى طرابلس، تسبقه شهرته الفنية. كان الشيخ الراحل محمد قنيص، العلّامة الموسيقي، العازف والمنشد البارز لـ«الموشح» و«المألوف» الأندلسيين في مدينة طرابلس. اقترب حسن عريبي من الشيخ قنيص، وانهمك في الوقت ذاته في تعلَّم المألوف والموشحات، قصائد ومقامات - الطبوع - وإيقاعات. ملك المألوف حياته. قرأ تاريخ العرب المسلمين في الأندلس. وتعمَّق في الفنون الأندلسية بكل أنواعها، وأنماط الحياة الاجتماعية والثقافية. لم يكن ذلك على حساب عشقه للغناء والموسيقى والطرب الذي تزدهر به الإذاعات العربية ومن بينها الليبية. لحَّن للكثير من المطربين والمطربات الليبيين والعرب، وتولَّى رئاسة قسم الموسيقى بإذاعة طرابلس.

سنة 1964 أنشأ فرقة الموشحات والمألوف بالإذاعة الليبية بطرابلس، وضم إليها عدداً كبيراً من الموسيقيين والمطربين، وبدأ يقدم هذا الفن العربي، بروح جديدة فيها إضافات، موسيقية وصوتية، وحضور شعبي وطني، تمثل في لباس كل أفراد الفرقة، البدلة الليبية التقليدية، والقبعات السوداء يتدلى خلفها ما يعرف بالبصكل، وهو حزمة من خيوط سوداء. قدمت الفرقة الجديدة نوبات كثيرة، وتعلق بهذا الفن الكبار والشباب، وانتشر المألوف في كل أنحاء ليبيا. الموشحات الأندلسية حملها العرب الذين غادروا الأندلس بعد سقوط غرناطة، وانتشروا في بلدان المغرب العربي. اختلف اسم هذا الفن من بلد إلى آخر، لكن كلمتَي الموشحات والمألوف ظلتا هما العنوان الفني والعلمي.

تواصل الفنان حسن عريبي مبكراً بزملائه، سادة المألوف في تونس والجزائر والمغرب، وأقاموا حفلات ومهرجانات وندوات، حول الفن الذي جمعهم. الفنان حسن عريبي أدخل بعض الآلات الموسيقية الغربية، إلى نوبات المألوف، رغم معارضة بعض شيوخ الجيل الماضي، لكنهم قبلوا بذلك بعدما استحسنوا هذا التجديد. حسن عريبي طرز بعض النوبات بشيء من الزجل المعدل، وحاول تقريب بعض الكلمات المستعملة في بلدان المغرب العربي، بعد تداول مع سادة هذا الفن. في المهرجانات التي نُظّمت في المملكة المغربية والجزائر وتونس، كان حسن عريبي كبير الشيوخ الذي يتصدر الحديث، يطير في الزمن الأموي والعباسي والأندلسي، ويربط الإيقاعات الموسيقية الأندلسية ببحور الشعر، وبالقوافي، ويرحل إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ ليغوص في زمن الأصوات، وتطور الآلات الموسيقية، وعالم المغنين والعازفين. أتقن العزف على آلة العود، وحلّق بصوته الشجي بين المقامات جواباً وقراراً. عزف منفرداً وكذلك غنى.

الفنان حسن عريبي شيخ المألوف الأندلسي في المغرب العربي، قدَّم لنا الغنيمة التي عاد بها العرب من الأندلس، فأوصلنا مرة أخرى إلى زمن مفقود، زمان الوصل بالأندلس.

ترأس الفنان حسن عريبي مجمع الموسيقى العربية، وفي هذا المحفل الكبير الذي يضم فحول العلماء والمبدعين في دنيا الموسيقى العربية، كان شيخنا حسن، العالم الموسوعي الذي يسبح ويمشي ويطير في النغم والإيقاع والكلمات، في أعماق جذورها وآفاق تكوينها وتطورها، مع الاندفاع المتزن في آفاق التطور والتجديد وقراءة الألوان الغنائية. كان يقول دائماً، لقد شهدت الموسيقى العربية والغناء العربي عبر السنين، تطوراً وإضافات، بتأثير من موجات فنية قادمة من الخارج، وإبداعات من أجيال عربية جديدة تلحّن وتغني، لكن اللحن العربي وكذلك الإيقاع، ما زالا محافظيَن على أصولهما. المقامات الموسيقية العربية، لم تزل تحافظ على أبعادها، وإن أخذت شيئاً من الآخرين. رحل الشيخ الأندلسي حسن عريبي، لكن ما أبدعه في فن المألوف، ما زال يشدو به الزمن.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حسن عريبي عبقري الوصل بالأندلسِ حسن عريبي عبقري الوصل بالأندلسِ



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 15:47 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل
المغرب اليوم - منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل

GMT 16:06 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجات لم يشفع لها الذكاء الاصطناعي في 2024

GMT 08:33 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الطقس و الحالة الجوية في تيفلت

GMT 00:40 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

حطب التدفئة يُسبب كارثة لأستاذين في أزيلال

GMT 05:45 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

بنغلاديش تعتزم إعادة 100 ألف مسلم روهينغي إلى ميانمار

GMT 07:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

نادال يُنهي 2017 في صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib