شهدت العاصمة الإيطالية يوم الاثنين في 29-1-2024 قمة أفريقية - إيطالية. الهدف الأساسي لهذه القمة، هو إطلاق مرحلة جديدة من التعاون بين الطرفين، وبخاصة في مجال الطاقة. حضر القمة 26 رئيساً أفريقياً وعدد من الوزراء، وحشد كبير من السياسيين الأوروبيين، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. قضايا عدة طُرحت في هذه القمة التي شهدتها العاصمة الإيطالية روما، وترأستها جورجيا ميلوني، رئيسة الحكومة الإيطالية. الهجرة غير القانونية، والأمن الغذائي، والتغيرات المناخية، والطاقة، كانت حاضرة في هذا المحفل، الذي تفاعل فيه الطمع والطموح. القارة الأفريقية صارت اليوم، ميداناً للصراع بين القوى الدولية المختلفة. تراجع الوجود العسكري والسياسي والاقتصادي الفرنسي، الذي استوطن القارة عقوداً طويلة.
جورجيا ميلوني الشقراء، وهي المرأة الأولى التي تقود الحكومة الإيطالية، لا تغيب عن أفريقيا، ولا تغيب عنها القارة السمراء. المهاجرون المتدفقون من أفريقيا، يشكّلون هاجساً حاضراً لإيطاليا. والطاقة قضية تشغل العالم كله، ولكن في إيطاليا لها ثقل خاص. إيطاليا بلاد صنعتها الجغرافيا، بقدر ما ساهمت هي في صناعة التاريخ، والتاريخ ثقل لا يغادر عقول الساسة. جورجيا ميلوني الممثلة لليمين الإيطالي، سبق لها أن شنّت حرباً كلامية على فرنسا، ووصفتها بالدولة الاستعمارية التي لم تتوقف عن نهب ثروات القارة الأفريقية، ووجهت اتهاماتها إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصياً. تهدف الآن إلى تقديم نموذج آخر للعلاقة الأوروبية مع أفريقيا. مجمل ما تكرره ميلوني يعني، أن فرنسا هي السبب في هجرة شباب أفريقيا نحو أوروبا، وأنَّ إيطاليا هي الضحية.
حكومة ميلوني اليمينية، تنشغل بالطاقة، وتحديداً النفط والغاز، وكانت زيارتها الأولى إلى الجزائر، حيث جرى التوقيع على اتفاق للتعاون بين شركتي «سونتراك» الجزائرية و«أيني» الإيطالية، كما زارت ليبيا، ووقّعت اتفاقات بين «أيني»، ومؤسسة النفط الليبية. زارت ميلوني تونس، وكانت قضية المهاجرين الأفارقة الذين يتدفقون عبر تونس القريبة من إيطاليا، وعملت جاهدة على ضم الاتحاد الأوروبي في برنامجها المشترك مع تونس لمواجهة الهجرة. في قمة روما الأفريقية - الإيطالية، قدمت إيطاليا وعوداً كثيرة لقادة أفريقيا. مشروعات في مختلف المجالات وبخاصة في البنية التحتية، والتعليم والصحة، وتعهدت بتخصيص خمسة مليارات يورو لذلك، لكن موسى الفقيه، أمين الاتحاد الأفريقي، قال في كلمته بالقمة: لا بد من أن ترتبط الأقوال والوعود، بالعمل على الأرض.
أفريقيا انهمرت عليها الوعود من أوروبا والولايات المتحدة والصين وروسيا، لكن الواعدين عيونهم على ثروات أفريقيا، وهواجسهم تتابع الهجرة غير النظامية القادمة من أفريقيا. حزام منطقة الساحل والصحراء التي نشبت فيه الانقلابات العسكرية، صار مطمحاً ساخناً لروسيا، وتتحرك في مناكبه بقوة، لكن هذا الإقليم الصحراوي الواسع الغني بالثروات، يضربه العنف والفقر، وآخر المستجدات فيه، إعلان المجلس العسكري الحاكم في جمهورية مالي، إلغاء الاتفاق الذي تم مع «حركة أزواد» الطارقية بشمال البلاد، برعاية جزائرية، وإعلان كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، الانسحاب من تجمع الـ«أكواس».
ما شدَّ استغرابي في قمة روما، هو عنوانها. أعطتها الحكومة الإيطالية عنوان قمة «ماتي». فمن هو هذا الرجل الذي اختارت جورجيا ميلوني اسمه ليكون عنواناً لهذه القمة التي تزخر بوعود تعبر الصحراء، وتخترق الأدغال؟ إنريكو ماتي، شخصية إيطالية تاريخية، لعب دوراً بارزاً في الحياة السياسية والاقتصادية في إيطاليا وخارجها، في خمسينات القرن الماضي. كان من المقاتلين الذين واجهوا النازية والفاشية في إيطاليا، ودخل عالم الصناعة مبكراً وهو في ريعان شبابه.
كان معادياً للهيمنة الغربية على النفط، وبعدما نجح في دمج الأجسام النفطية الإيطالية في مؤسسة واحدة، هي شركة «أيني»، تبنى سياسة جديدة مع البلدان المنتجة للنفط، وعمل على ربط علاقات قوية مع الدول المستهلكة للنفط من أجل كسر هيمنة الشركات الغربية الكبرى، المعروفة بالأخوات السبع، في مجالي الإنتاج والتسويق. زار الصين، وقابل الزعيم ماو تسي تونغ، والاتحاد السوفياتي والتقى قادته، ومصر وقابل الرئيس جمال عبد الناصر، وليبيا واجتمع بساستها.
أذكر أنه زارنا في بيتنا في بلدة الغريفة، برفقة مجموعة من المسؤولين بولاية فزان سنة 1958، وتناولوا الغذاء. كان أول إنسان أوروبي أراه في حياتي. فتح الرجل عليه أبواباً للنار من جهات عدة.
قاد حملة عالمية لتغيير عقود العلاقة بين الدول المالكة حقول النفط، والشركات المنتجة، وطالب بأن يكون نصيب دول المصدر أكبر من نصيب الشركات التي تقوم باستخراج النفط، وأن تنقل تقنية الإنتاج إلى البلدان المصدرة. دخل في حرب مباشرة مع فرنسا؛ لدعمه العلني الثورة الجزائرية، والتقى قادتها في الاتحاد السوفياتي، ومصر وليبيا وتونس، وسخَّر وسائل الإعلام الإيطالية لدعم ثورة الجزائر؛ مما تسبب في انقسام داخل الحكومة الإيطالية، وتوتر مع فرنسا.
لم يقف إنريكو ماتي عند خطوط الصراع في مجال النفط والسياسة، بل قاد مشروعاً جمع بين الدين والسياسة، وعقد ملتقى للأديان الإبراهيمية الثلاثة، المسيحية والإسلام واليهودية، ودعمه في مشروعه هذا، المفكر والسياسي الإيطالي الكبير، جورجو لابيرا، المنتمي للحزب الديموقراطي المسيحي. كان رأي إنريكو ماتي، أن هذه الأديان التي وُلدت في البحر الأبيض المتوسط، هي القادرة على نشر السلام على ضفافه. معارضو ماتي شنّوا عليه حرباً ضروساً، ووصفوه بالرجل الطموح الخطير.
لماذا اختارت جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية اليمنية، اسم هذا الرجل الثائر اليساري ليكون عنواناً لقمتها مع أفريقيا؟ هل رأت، أن تستحضرَ اسم إنريكو باتي، صديق أفريقيا وبخاصة ليبيا التي يربطها بإيطاليا أنبوبُ غاز تحت البحر، والجزائر التي يربطها بإيطاليا أنبوب غاز عبر تونس يحمل اسم إنريكو باتي، والعدو التاريخي لفرنسا، لتقول لقادة أفريقيا، إنَّ إيطاليا هي الصديق الأوروبي الذي يسخّر قدراته لمساعدة أفريقيا من دون أطماع استعمارية، وإن حليفكم القديم إنريكو ماتي، هو دليل سياستنا نحو قارتكم؟
مأساة أفريقيا اليوم، أن دولاً كثيرة فيها مفككة في داخلها، ويعشش الفساد في مفاصلها، ولا تغيب عنها الانقلابات العسكرية، وفي الوقت ذاته تتكالب عليها قوى عدة؛ طمعاً في ثرواتها. الوعود والمشروعات الخيالية، لا تغيب عن القارة الغنية في باطنها، الجائعة في بطنها. تظل تعيش في انتظار الذي لا يأتي من داخلها أو من خارجها، سوى قمة تلحقها أخرى، تحمل وعوداً لا تختلف عن سابقاتها، يصدق عليها قول أبي الطيب المتنبي: أنا الغني وأموالي المواعيدُ.