لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع

لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع

المغرب اليوم -

لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

من سجنه يعود لولا داسيلفا، إلى معترك انتخابات الرئاسة البرازيلية التي ستجرى في شهر أكتوبر القادم، وكأنه يندفع من ظلام غابات الأمازون، وينهض من أمواج أنهاره.
وجه انكب سنوات بظهر منحنٍ ليمسح أحذية المارة، ويد تدفع مكنسة ثقيلة لتنظف الشوارع التي تتكدس فيها القمامة، وتعبرها أجساد تحركها بقايا حياة، وتتلوى فيها رعشات الجوع. هناك ترعرع حلم مستطيل كما هي خارطة البرازيل، اسمه لويس إناسيو لولا داسيلفا. في غرفة صغيرة تكدس لويس مع إخوته الخمسة ووسطهم أم فرَّ ربُّ بيتها إلى حضن امرأة آنسته ما عداها. لم يكمل الطفل دراسته الابتدائية، فطلبات البطن تسبق ما يطلبه الرأس. تنقل من عمل إلى آخر في مدن البرازيل التي تكتظ بالبطالة والجوع والجريمة. لكن في معمل نجارة كان للويس إناسيو لولا موعد مع ولادته الثانية في أحشاء البرازيل. قطع إصبعه البنصر، ليسكن ذلك الرفيق الصغير المقطوع في رأس الشاب الكادح، ويكون أكاديمية الفكر والعقل والسياسة والنضال.
انشغلت أميركا اللاتينية، وشغلت العالم بوميض ثوري رافقته أسماء وصور لرموزه في القرن العشرين مثل كاسترو وجيفارا، وسادت في بعض الدول صرخات شعاراتية في كوبا وبوليفيا ونيكاراغوا وفنزويلا وغيرها تدعو لوحدة لاتينية ومواجهة الهيمنة الخارجية وخاصةً الأميركية. تلك السياسات والشعارات كانت لها جذور قديمة منذ ثورات سيمون بوليفار. البرازيل خاضت حربا ضد الاستعمار البرتغالي وتحررت سنة 1823.
إناسيو لولا داسيلفا كان مدرسة خاصة في النضال من أجل العدالة، وخدمة الفقراء. كان نقابيا يساريا، ودخل السجون، وخاض العمل السياسي ببرنامج عملي وأسس حزب العمال الذي هفت إليه عقول الطامحين في تغيير يقوم على معرفة احتياجات البلاد وإمكانياتها، دون الدخول في عداوات وصدامات شعاراتية مع دول أخرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا أو دول في داخل أميركا اللاتينية.
قابلت السيد لولا داسيلفا مرات قبل توليه الرئاسة بمنزله المتواضع في سان باولو، ولقد فوجئت بمدى إلمامه بتفاصيل ما تعانيه بلاده، ورؤيته الشاملة للحلول في كل المجالات. كان موضوع فلاحين بلا أرض، قضية الساعة في البرازيل، وكانت مقاربته لحل هذه القضية، مبنية على معطيات واقعية لا تمس مصالح الملاك، وفي ذات الوقت توفر الفرص للفلاحين لاستثمار الأراضي الشاسعة في البلاد. تحدث مطولا عن الوضع الدولي وقدم تحليلا سياسيا واسعا. لم يتحدث بمنطق اليساري الاشتراكي الثوري، بل بعقل السياسي الذي تسكنه رحلة طويلة من المعاناة التي شاركها عبر حياته مع الطبقة المسحوقة من شعبه. قابلته بعد فوزه في انتخابات 2002، فوجدته يفكر بعقل المدرك لحجم المسؤولية الكبيرة، ويعبئ قدراته وتجربته لمواجهة ما ينتظره من تحديات داخلية وخارجية.
بدأ معركته واقتحم جبال الملفات التي تمتد فوق خارطة البرازيل الطويلة بما فوقها من غابات أمازونية وأنهار ومعاناة من الجريمة إلى الجوع والبطالة والتفاوت الطبقي الكبير.
أميركا اللاتينية مرت بمراحل تلاحقت فيها الاضطرابات. من حروب الاستقلال إلى حلم إقامة ولايات متحدة لاتينية على غرار الولايات المتحدة الأميركية. قاد ذلك الحلم الثائر سيمون بوليفار، في البداية لاحت بعض النجاحات ولكن الانكسارات كانت أقوى.
الانقلابات العسكرية اجتاحت كثير من دول القارة ومن بينها البرازيل، وألحقت بهذه الدول كوارث حقيقية. في أواخر القرن الماضي ولدت مرحلة جديدة سادت فيها الديمقراطية، لكن النزعة الثورية ظلت تطفو في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا والإكوادور وغيرها. لولا داسيلفا قدم نموذجا مبتكرا في القارة. الديمقراطية وحرية الرأي والتنمية والتوازن السياسي على المستوى الدولي والمحافظة على استقلال القرار الوطني. اختلف في بعض التوجهات مع سياسة الولايات المتحدة الأميركية، لكنه لم يصطدم بها أو يعلن العداء المباشر لها. كان همه الأساسي تحقيق نقلة اقتصادية في بلاده التي تمتلك مقدرات هائلة. نجح في إخراج أكثر من عشرين مليون مواطن من تحت خط الفقر وحقق فائضاً ماليا تجاوز مائتي مليار دولار، ورفع حجم الصادرات وتوسع في الاستثمار الداخلي وخاصةً في مجال النفط وغيره من الخامات، وطور الصناعات المختلفة، ورفع قدرات الجيش وفرض التجنيد الإلزامي، وأصبح الجيش البرازيلي الأكبر والأقوى في أميركا اللاتينية. في سنوات رئاسته، أصبحت البرازيل الدولة الثامنة في الترتيب الاقتصادي العالمي. تخلّق تيار سياسي جديد في أميركا اللاتينية، تبنى النموذج البرازيلي الجديد، ارتكز على إمكانية تحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي واستقلال القرار الوطني، دون الاندفاع في مسار الهياج الشعاراتي الثوري الرغبوي.
صار لهذا التيار أنصار في داخل البرازيل وخارجها. تحركت القوى المضادة التي أسست تحالفا ضد سياسة لولا داسيلفا، وأسست تحالفا له امتدادات خارجية، وتحركت القوى اليمينية بما تملكه من إمكانيات مالية هائلة ووسائل إعلام وتنظيمات سياسية، مستهدفة المشروع والشخص الذي يقوده. وجهت للولا داسيلفا الفقير تهمة الفساد المالي، وحكم عليه بالسجن. الآن، بدأ العد التنازلي لخوض معركته الرئاسية الجديدة ضد الرئيس جايير بولسينارو الذي يكرر إيمانه بحكم الجيش وبنية المجتمع الطبقي، ويفتح الطريق أمام المندفعين للاستيلاء على غابات الأمازون. استطلاع الرأي العام أعطى لولا داسيلفا 43 في المائة في حين لم يتجاوز الرئيس جايير بولسينارو 26 في المائة الذي باشر مبكرا في خوض حملته الانتخابية. البرازيليون يرون في الانتخابات الرئاسية القادمة، معركة بين مشروعين وليس بين شخصين، وأميركا اللاتينية الرسمية والشعبية تنظر إلى هذه الانتخابات وتنتظرها لأهمية البرازيل في القارة.
ماسح الأحذية وبائع الخضراوات والعامل المتنقل بين المصانع الصغيرة والكبيرة ونقيب العمال ورئيس الجمهورية، ما زال يحمل سلاحه المقدس في ثكنة عقله، وهو خنصره الصغير المقطوع، ففيه تتفاعل قضية وطن وتتحصن إرادة. معركة قادمة بين مشروعين، أحدهما يقوده بنصر البرازيل المقطوع، وآخر يتوكأ على عصا السلطة والجيش.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع لولا داسيلفا إصبع البرازيل المقطوع



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
المغرب اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 11:20 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
المغرب اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 21:05 2019 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

تنتظرك أجواء هادئة خلال هذا الشهر

GMT 04:31 2017 الجمعة ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

قلة تناول "أوميغا 3" يؤدي إلى ضعف السلوك الاجتماعي

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

الذهب يلامس قمة جديدة والفضة عند أعلى مستوى في 12 عاما

GMT 06:11 2017 السبت ,17 حزيران / يونيو

تعرف على توقعات أحوال الطقس في طنجة السبت

GMT 15:38 2014 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

فوائد الحلاوة الطحينية

GMT 06:15 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

شركات الأقمشة تطرح تصميماتها الرائعة من حرير "الدمسق"

GMT 18:40 2016 الثلاثاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

عمرو أديب يستضيف إسلام البحيري بعد العفو الرئاسي عنه

GMT 18:34 2016 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

فلويد مايويذر يقوم بجولة يزور خلالها 8 مدن إنجليزية

GMT 19:41 2016 الخميس ,08 كانون الأول / ديسمبر

تسرّب الماء الصالح للشرب في مدينة بركان المغربية

GMT 03:47 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

جيهان السادات تنفي تورط مبارك في اغتيال الرئيس الراحل

GMT 14:45 2016 الجمعة ,15 كانون الثاني / يناير

نور الشربيني بطلة جي مورجان للإسكواش للمرة الأولى

GMT 05:25 2015 الأربعاء ,14 كانون الثاني / يناير

11 حالة إغماء داخل مؤسسة تعليمية في تمارة

GMT 11:44 2014 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

عمر القزابري يحيي حفل تأبين الوزير الراحل باها
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib