أهل الهوى وخُلَّان الهواء
أخر الأخبار

أهل الهوى وخُلَّان الهواء

المغرب اليوم -

أهل الهوى وخُلَّان الهواء

عبد الرحمن شلقم
عبد الرحمن شلقم

من ضاقَ بمن؟ الناس أم الأرض التي تصرخ ناراً وطوفاناً وتضيق بمن على ظهرها. حرائق تنتقم ممن تلذَّذ سنين بما نبت على ظهر الأرض واستعبده وسخره له الإنسان ناسياً أنَّ لكل الموجودات في هذه الدنيا حقوقاً في الحياة، شجراً وهواءً وتراباً. لكل كائن بسمات وغضب. هل كان للإنسان أن يحيا أكلاً وشرباً وتنفساً من دون منَّة التراب وفضائل أنسام الأكسجين والتمثيل الضوئي وخير المزن الذي ينزل من السماء ويحيي الأرض دون أمر وجهد من البشر؟ الغابات لم يزرعها جهد الناس، بل نبتت من فرحة الأرض والماء بالتلاقي قبل أن ينبت ورق الكائنات الحية في شجرة الوجود.

العصور عبرت الزمان فوق هذه الأرض منذ أن خلقها الله، تتنقل بين التجمد والسيولة تطوف فيها الرياح وتعانقها مياه السماء في سلام لا تزعجه حروب أو شطط يأتي على ما هناك من شجر أو حجر. جاءت الكائنات الحية من بشر وحيوانات؛ فانقلب كل شيء وبدأت مسيرة الفساد في الأرض. قال الله تعالى « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(البقرة: 30).

تلك هي حكمة الله التي لا يعلمها غيره من الملائكة والبشر. الإنسان طموح وأناني بلا حدود، يعمل لتسخير كل شيء لخدمته وتحقيق سيطرته عليه. نحت في الجبال كهوفاً ليسكنها، وصنع من حجارتها أدوات للصيد والقتل والقتال، ثم بنى من ترابها بيوتاً وقطع أشجار الأرض التي أكل من ثمارها. استعبد الإنسان الأرض مبكراً وجعلها مادة طيعة لرغباته وغرائزه التي ليس لها حدود.
رغم كل ذلك، ظلَّت الأرض قادرة على مقاومة أنانية الإنسان الشرسة، وحافظت على مكوناتها الأساسية من نبات وأنهار، وكذلك نقاء الهواء الذي تعيش به كل الكائنات الحية وأولها الإنسان.
الانقلاب الخطير فوق الأرض، بدأ مع الثورة الصناعية، حيث حلَّت المكننة محل العمل اليدوي في أواخر القرن الثامن عشر، وتحديداً في بريطانيا ثم انتشرت في أوروبا الغربية. بدأ إنتاج الحديد واستخدام الطاقة البخارية والتصنيع الكيماوي، تغيَّر كل شيء على الأرض القديمة، وارتفع عدد السكان وتوسَّعت السيطرة الاستعمارية الأوروبية الغربية على العالم. تعملق الطموح وارتفعت دقات غريزة السيطرة عند البشر الجدد، وتشكَّلت - قوة أهل الهوى - التي سخّرت كل شيء لإشباع رغبة الاستمتاع والرفاهية وغريزة استعباد ما في الكون من بشر وخامات بقوة

الآلة التي أصبحت أدرع الصناعة والقتال، وأداة لاستعمار الآخرين الذين لا آلة لهم ولا سلاح. الضحية الأكبر للانقلاب الصناعي الذي أخرج ما في جوف الأرض الذي تخلَّق عبر ملايين السنين من فحم حجري وحديد وغاز ونفط وغيرها، استولى عليها أهل الهوى ورفعوها إلى سطح هذا الكوكب المُستعمَر، لتتحول إلى قوة استعباد أخطر. اندفعت الاختراعات من الكهرباء إلى القطارات والسيارات، ولم يعد الإنسان يكتفي بالمصباح الواحد البسيط، بل انتشرت الثريات التي تتدلى منها عشرات المصابيح والسيارات التي تملأ الدنيا ضجيجاً ودخاناً وآلاف الطائرات التي حولت الجو إلى براح مملوء بالحديد الطائر، وزحفت النفايات تغزو البحار والأنهار. قُطعت أشجار الغابات وحُرقت لتسطو الحجارة على مكانها الأخضر. هوى الرفاهية النزق كدَّس كائنات القتل على كوكب الأرض في سنوات قليلة بعد أن عاشت في سلام لملايين السنين.

اليوم صار للخطر الرهيب أفواه وأقلام تصرخ لتقول للبشرية، إنَّ المركب الذي تعيشونوقه سيختنق بعد أن أصبح بلا رئة، وأن الأرض تشهق بالتلوث وتزفر بالحرارة التي ترتفع بدرجات رهيبة تذيب الجليد الذي يهدي الأرض البرد والسلام. بدأت الطبيعة تنتقم لنفسها، وسلَّطت نيرانها لتحرق ما يبس وما بقي به شيء من الاخضرار، وهاجمت جيوش النيران مشارق الأرض ومغاربها، وتحالف معها طوفان الماء ليُغرِق ما بناه أهل الهوى ويهدد مدناً، بل بلداناً بالزوال غرقاً.

اليوم ترتفع النداءات الأخيرة من العلماء والخبراء، ويلتقي قادة العالم في قمم متلاحقة علَّهم يبدعون ثورة أخرى غير صناعية، بل إنسانية تنقذ ما يمكن إنقاذه من الوجود الطبيعي. هل سيتشكل الجيش الإنساني المدافع عن الأرض والهواء ويكبح الجنون الغريزي الذي لا يبقي شيئاً من عوامل الحياة على هذه الأرض.

معركة الحياة بين أهل الهوى الذين يتجاهلون الوهن الكبير الذي أصاب كوكب الأرض، ويهدد وجود البشر فوقها بسبب الاندفاع العبثي في زخرف الرفاهية الذي لا يتوقف، وأهل الهواء الذين يصرخون من أجل تعبئة قوة العقل والضمير والعلم لإنقاذ الأرض وهم ليس لهم القوة القادرة على مقارعة المسممين وكبح أنانيتهم القاتلة. هل يصدق ما ساقه الكاتب والأديب الأميركي مارك توين في كتابه «الجنس البشري الملعون»؟ حيث قارن بين الإنسان والحيوان وعارض نظرية دارون عن أصل الأنواع، وذهب إلى أنَّ الحيوان أرقى من الإنسان الذي يقتل من أجل الاستمتاع بلعبة الصيد ويعتدي على الأضعف منه، ولا يتردد عن تخريب الطبيعة.

الحيوانات في رأي مارك توين لا تشعل الحروب ولا ترتكب الإبادات الجماعية المنظمة، وقال توين، إنَّ الإنسان هو الحيوان الأقل عقلاً وهو كائن مجنون ومهلوس. خُلَّان الهواء الذين يهبون الحياة للأرض هم قوة الأمل التي تخوض معركة من أجل خليلهم... نرجو ألا تكون الأخيرة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أهل الهوى وخُلَّان الهواء أهل الهوى وخُلَّان الهواء



GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

GMT 07:04 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

وزن تأريخ الأردن في التوجيهي 4 علامات.. أيعقل هذا ؟!

GMT 07:01 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

لكنّها الطائفيّة... أليس كذلك؟

GMT 06:58 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

العلويون جزء من التنوّع الثقافي السوري

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:17 2025 الجمعة ,10 كانون الثاني / يناير

ترامب يؤكد أن بوتين يرغب في اجتماع لإنهاء حرب أوكرانيا
المغرب اليوم - ترامب يؤكد أن بوتين يرغب في اجتماع لإنهاء حرب أوكرانيا

GMT 21:52 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

فالنسيا يقيل مدربه باراخا بعد التراجع للمركز قبل الأخير

GMT 11:01 2019 الأحد ,21 إبريل / نيسان

اكتنز ثواب وفضل ليلة النصف من شهر شعبان

GMT 20:16 2019 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

الهدف الأول لليفربول عن طريق ساديو مانيه

GMT 12:05 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

"ديور" تطلق مجموعة جديدة ومميزة من الساعات

GMT 00:12 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

إنتر يواصل ملاحقة الصدارة بثنائية في كومو

GMT 23:47 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

نيكولاس غونزاليس سعيد باللعب في غير مركزه مع يوفنتوس
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib