مدافع الجغرافيا وخنادق التاريخ

مدافع الجغرافيا وخنادق التاريخ

المغرب اليوم -

مدافع الجغرافيا وخنادق التاريخ

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

الحرب هي الحادي للكائنات منذ بداية مشيها على الأرض. الخنجر الأول كان من الحجر، لكن من نحته ليس الجبال أو المياه، إنما الإنسان عندما اعتدلت خطاه فوق التراب. الحرب المزركشة التي تدور اليوم بين أوكرانيا وروسيا، هي مواجهة بين زمن يسكت، ويبتلع لسانه المتفجر، لكنه يضرب أسنانه كي تستيقظ لتنفث ناراً خبت، وتمد لهيبها إلى تراب مسكون بانفعال غالب الزمن، وغاص في طيات الجغرافيا، وتصلَّب في طبقات التاريخ. بولندا الأرض التي حصحص فيها التراب، وتحول إلى الزناد الذي يصعق ما في الرؤوس وما فوق الخرائط. الحربان العالميتان الأولى والثانية، أطلقتهما مدافع القوة من داخل بولندا أو عبرها. الزعماء السياسيون والجنرالات العسكريون، تحركهم خطوط الطول والعرض على الخرائط، لكن للأطماع خرائطها وخطوطها.
قبلت الدول الغربية الديمقراطية بنزق أدولف هتلر، وسلمته ما طالب به من أراضي تشيكوسلوفاكيا. كانت ذريعته الأراضي الألمانية التي اقتطعت من وطنه. رفع رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين وهو يهبط من سلم طائرته العائدة من ألمانيا بعد اتفاق التهدئة في ميونيخ، أوراق السلام، وتنفس البريطانيون الصعداء أملاً في سلام أوروبي يوسع مساحة التقدم والرخاء. لكن بولندا كانت أكثر حرارة. لعنة الجغرافيا لها فعل مدافع محشوة بدانات ما في رؤوس القادة الطامحين. تُلعب أوراق القمار فوق موائد خضراء، لكن لعبة الحرب تخاض على أراضٍ أوراقها البشر. بعد اتفاق روسيا ستالين وألمانيا هتلر على عدم الاعتداء الموقع بين روبنتروب وزير خارجية هتلر ومولوتوف وزير خارجية ستالين، صارت بولندا هي الطريدة على طاولة القمار العالمي المدرع. تحركت جيوش هتلر نحو بولندا بدعوى استعادة ما أُخذ من ألمانيا وأُهدي إلى بولندا، وتحرك الجيش الأحمر السوفياتي ليقضم الجزء الشرقي من بولندا. قتل الجيش الألماني مئات الآلاف من العسكريين والمدنيين البولنديين، وتفوق عليه الجيش الأحمر السوفياتي في ذلك. اليهود البولنديون تحولت بيوتهم وكل أحيائهم إلى مسالخ ومعسكرات للحرق والموت. بولندا تعود اليوم بثقل الجغرافيا ورجرجة ظلمات الماضي إلى خندق يمتلئ بالناس الهاربين من أوكرانيا، وفي عقولهم نبض الرعب، وطوفان تاريخ له لهب يحفر خنادق تاريخ يفرون لها. بولندا لها نارها التي تختلف عن نار صربيا التي أوقدت الحرب العالمية الأولى. شاب قزم نزق يقتل أميراً في سيراييفو، فيغضب الأباطرة. الحرب العالمية الثانية، كانت حشرجة مدافع في قشرة رؤوس قحفها ممتلئ بعناقيد العظمة المتفجرة. اليوم الهروب من أوكرانيا إلى بولندا أرض الأسنان والأظافر المدرعة بمدافع الجغرافيا التي تسكن في خنادق التاريخ الذي لا يبلى ولا يلحقه تراب الزمن.
الأسماء علامات رمزية لها أغلفة من الكلمات والشعارات. لكن أسماء الأوطان غير أسماء الرجال من كبر ومنهم ومن صغر. أدولف هتلر وموسوليني وستالين وتشرشل وغيرهم رحلوا إلى تراب الماضي، لكن الحاضر له جغرافيا تَكتب، ويُكتبُ على مداياتها. فنلندا إصبع جغرافي مشحون بقوة المكان وضعفه، أعلنت بصوت عالٍ أنها تعتزم الانضمام إلى حلف الناتو، وستلتحق بها دولة السويد دون شك. ذاك حبل النار المجنزر الذي سيلتف على جسد روسيا الكبير وترفع الجغرافيا أثقالها، ويفجر التاريخ ما كمن في الخنادق. حرب الشتاء التي خاضها الجيش الأحمر السوفياتي العظيم ضد فنلندا الدولة الصغيرة على حدوده سنة 1939 وفقد فيه السوفيات الآلاف من القتلى، وغنم فيه الجيش الفنلندي كميات هائلة من الأسلحة السوفياتية، لم تزل تتنفس في ذاكرة الخندق التاريخي الروسي. أعلنت روسيا، منذ أكثر من شهرين ونصف الشهر، الحرب على أوكرانيا بحجة منع اقتراب حلف الناتو من حدودها الأمنية. للجغرافيا مدافع، وللتاريخ خنادق. هناك خنادق لها رئة حية تتنفس بها وأخرى سفتها رياح التاريخ ودفنها التراب. بولندا صفحة على الوجود الأوروبي، وهي أصغر من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وروسيا كيان أبدعته الجغرافيا، وصبّ فيه التاريخ ألوان مسيرته، فكانت زخرف التخلق الآسيوي الأوروبي.
القيصرية والمذهب الأرثوذكسي والعظمة الإمبراطورية بقوة آل رومانوف التي كانت الرحم الذي ولد قياصرة روسيا. تاريخ يصمت عقوداً أو قروناً، لكنه يظلُّ قوة لها في خبايا العقول فعل. أوكرانيا وروسيا، أرض تخبو فيها خيوط الحرب والسلام وهزَّات القوة والضعف. أوكرانيا كتبت صفحات في كتاب الوجود الروسي عبر التاريخ. أي زعيم روسي لا يقرأ تلك الصفحات، تتسرب من أصابع قوته خيوط النسيج التي تجمع روسيا الاتحادية. حرب بوتين في أوكرانيا هي معركة من أجل وحدة روسيا الاتحادية المهددة بثورات ملونة تضرب كيان الدولة الواسعة، وهي الأكبر مساحة فوق خارطة العالم. كلمة (ستان) التي تعني الأرض، وتلتصق بعناوين الكثير من الدول في آسيا الوسطى وكان أغلبها من مكونات الاتحاد السوفياتي، هي الناقوس التاريخي والجغرافي الذي لا يصمت في عقول القادة الروس.
المفكر الروسي يوغين ألكسندر، صاحب النظرية السياسية الرابعة، صبّ في رأس الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، ما تدفق من روافد التاريخ والمذهب الكاثوليكي، وأيقظ في رؤيته السياسية ما رقد في خندق التاريخ. صارت الجغرافيا مدافع الحاضر المحشوة ببارود التوجس والشكوك. النازية التي غزت بجيوشها القادمة عبر بولندا أراضي روسيا السوفياتية، كلمة متفجرة لا يدفنها التاريخ في حفر ما مضى، ونابليون بونابرت عبر بولندا ووصل إلى موسكو. بقايا أقدام جيشه حفر دم في رؤوس الأمة الروسية.
الحرب الروسية في أوكرانيا، معركة على جبهة نرى وقائعها على شاشات التلفزيون وعبر التصريحات، لكن القوات التي تغيب عن المشهد هي مدافع الجغرافيا وخنادق التاريخ.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مدافع الجغرافيا وخنادق التاريخ مدافع الجغرافيا وخنادق التاريخ



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 11:19 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
المغرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:20 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 15:47 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل
المغرب اليوم - منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل

GMT 16:06 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجات لم يشفع لها الذكاء الاصطناعي في 2024

GMT 08:33 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الطقس و الحالة الجوية في تيفلت

GMT 00:40 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

حطب التدفئة يُسبب كارثة لأستاذين في أزيلال

GMT 05:45 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

بنغلاديش تعتزم إعادة 100 ألف مسلم روهينغي إلى ميانمار

GMT 07:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

نادال يُنهي 2017 في صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib