أوكرانيا نفق الجمر الأوروبي الطويل

أوكرانيا نفق الجمر الأوروبي الطويل

المغرب اليوم -

أوكرانيا نفق الجمر الأوروبي الطويل

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

الحرب الأوروبية التي هزّت رؤوس الناس وبطونهم، أطلقت عواصف الترقب، بل الخوف من حدوث بركان لا يمكن التكهن بمدى عنفه. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يمضي في مشروعه الحربي ولا يلوي على شيء. تداخلت صور القتلى والجرحى والأسرى والنازحين واللاجئين، مع المباني والطرق المدمرة. دخلت الحرب بيوت الناس في كل قارات العالم، عبر صور تجسد حجم الهول التراجيدي لهذه الحرب، التي أصبحت فيها الصور التلفزيونية، جنوداً وآلات مضافة إلى القوات المقاتلة. سيدة عجوز أوكرانية تبكي وتقول: لقد مات زوجي وابنتي، ولم يعد لي أحد، وكل ما أريده، أن أموت وألحق بهما. سيدة عجوز أوكرانية أخرى، تستقبل مجموعة من الجنود الروس، وتظهر لهم أنها فرحة تحتفي بهم، وتقدم لهم طبقاً كبيراً من الحلويات، وبعد دقائق يموت تسعة منهم، فقد كان كل ما في الطبق مسموماً. صار الحقد والعناد والكراهية، أسلحة تقاتل.
القوى الغربية التي تضم أوروبا والولايات المتحدة، تصب كل يوم زخات من العقوبات على روسيا، وترسل كل أنواع الأسلحة إلى أوكرانيا، والرئيس زيلينسكي، يواصل برنامجه الخطابي اليومي، الذي يعيد فيه إصراره على مواصلة القتال، رغم اعترافه بالقوة الروسية الضاربة، وفقدان أوكرانيا عشرين في المائة من مساحتها. ذلك تحصيل حاصل، فالفرق شاسع بين قوة الطرفين في العدد والعتاد. روسيا ترفع وتيرة اندفاعها العسكري، وصوت إصرارها السياسي على تنفيذ ما أعلنته منذ اليوم الأول على تحريك قواتها نحو الأراضي الأوكرانية. أوروبا التي فتحت أبوابها للاجئين الأوكرانيين، وقدمت المال والسلاح للجيش الأوكراني، بدأت تشهد مراجعات وتراجعات في مواقفها من الحرب. فرنسا وألمانيا وإيطاليا، بدأت ترفع صوت السياسة، وضرورة تخليق مبادرات دبلوماسية، تراعي مصالح روسيا، وتوقف شلال الدم وزلزال الخسائر لدى الطرفين. حزام العقوبات الحاد الذي التف حول الكيان الروسي، دخل مرحلة الارتخاء، ودخلت المليارات إلى الخزينة الروسية، أما الغاز الروسي وكذلك النفط، ومنتجات أخرى، فقد تلمست طرقها إلى دول عدة، بما فيها بعض الدول الأوروبية. الموقف البريطاني الذي يعبر عنه رئيس الوزراء بوريس جونسون، لا يتوقف عن ضرب طبول الحرب، ورفع وتيرة استمرار الصدام. أما الولايات المتحدة التي تقدمت صفوف مؤيدي المقاومة الأوكرانية، فإنها تعد الدرجات التي تعلوها في هذه المواجهة بشكل يومي. الآثار الاقتصادية السلبية، والأزمة الغذائية العالمية، ونواقيس الكساد، كل ذلك أنتج أصواتاً سياسية متضاربة داخل الولايات المتحدة.
لا تلوح حتى اليوم خيارات سياسية لوقف القتال وفتح أبواب تسوية سلمية. كل طرف رفع سقف أهدافه. روسيا لن تتراجع عن ضم إقليم دونباس الأوكراني، ولا تقبل الحديث عن شبه جزيرة القرم التي ضمتها سنة 2014، مع التمسك برفضها لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. ومما يزيد من صلابة السقف الروسي المرتفع، ارتباطه بشخص الزعيم القومي الروسي فلاديمير بوتين. الحرب الروسية - الأوكرانية، هي قضية أوروبية بامتياز، وستعيش في الجغرافيا والسياسة والأمن الأوروبي لسنين طويلة مقبلة. قال الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول: إن روسيا أكثر أوروبية من بريطانيا، ولولا النظام الشيوعي الحاكم في الدولة السوفياتية آنذاك، لكانت روسيا جزءاً من أي تجمع أوروبي. لقد أثبتت الأيام ذلك، وخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لقد زال المانع الذي أبعد روسيا عن الكيان الأوروبي وهو الشيوعية، لكن القارة الروسية التي تبلغ مساحتها 17 مليون كلم مربع، بقيت الكيان المنبوذ من الأسرة الأوروبية. الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، واصطفت فيها أوروبا إلى جانب أوكرانيا، ستبقى نفق جمر طويلاً بين أوروبا وروسيا، ولن يكون من السهل على أي طرف أن يرش عليه ما يمكن أن يطفئه. الرئيس بوتين سيرى الموقف الأوروبي سحابة كثيفة ناطقة أمامه، ترسم له ملامح عداء الجار الخصم، الذي لا يأمن نواياه في المستقبل. أوروبا القوية اقتصادياً وعسكرياً اليوم ككيان متحد، كانت لها اشتباكات عديدة مع روسيا عبر التاريخ. حفرت نفقاً طويلاً ملأته الحروب بجمر من حديد. معركة روسيا في أوكرانيا، ليست معركة من أجل السيطرة على مساحات من التراب، لكنها إعادة رسم خرائط أوروبا بحبر الدم وأقلام المدافع والصواريخ. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرأ التاريخ الروسي بعقل الزعيم القومي، وجرَّ سطوره إلى رحاب قصر الكرملين، وأعلن رسالة التاريخ الحي منذ أيام، حيث قال في احتفال بذكرى مرور 350 عاماً على ميلاد القيصر بطرس الأكبر: نحن لا نحتل أراضيَ، إنما نسترجع أراضينا. وأضاف، أن بطرس الأكبر قاتل لسنوات لاستعادة أراضي روسيا. ألكسندر يوجين المنظّر الروسي الذي يمثل الأستاذ القومي الأرثوذكسي الروسي للرئيس بوتين، لا يتوقف عن شحن النخبة السياسية والثقافية الروسية، بقوة روسيا وعظمتها وقدرتها التي صنعها تاريخها وهويتها القومية ومذهبها الأرثوذكسي، ولا يمكن لها أن تكون قوية وتنافح من هم حولها إلا بذاك السلاح القدري الموروث والحي. معركة روسيا في أوكرانيا، لها رؤوس ثلاثة؛ الأول على أرض أوكرانيا، والثاني مع أوروبا، والثالث مع الولايات المتحدة. النصر في الحالة الأولى صار شبه مؤكد، وقد اعترف الرئيس الأوكراني زيلينسكي بالوهن العسكري الذي تعانيه قواته. أما أوروبا فقد بدأ موقفها يتشقق. ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، تركض نحو حل سياسي على قاعدة لا غالب ولا مغلوب. لكن روسيا تصر على المعادلة الصفرية، أي غالب ومغلوب. أما الولايات المتحدة، فترى أنها حققت أكثر من فائدة في هذه الحرب، وهي إعادة تماسك حلف الناتو، وزيادة محاصرة روسيا بانضمام فنلندا والسويد للحلف. لا يبدو أن هناك حلاً سياسياً يوقف الحرب. لكن يبقى السؤال وهو، إذا وقفت حرب السلاح بعد أيام أو شهور، فهل سيجري ردم نفق الجمر بين روسيا والغرب، أم ستندفع منه براكين عنيفة رهيبة طويلة الأمد؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوكرانيا نفق الجمر الأوروبي الطويل أوكرانيا نفق الجمر الأوروبي الطويل



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 15:47 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل
المغرب اليوم - منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل

GMT 16:06 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجات لم يشفع لها الذكاء الاصطناعي في 2024

GMT 08:33 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الطقس و الحالة الجوية في تيفلت

GMT 00:40 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

حطب التدفئة يُسبب كارثة لأستاذين في أزيلال

GMT 05:45 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

بنغلاديش تعتزم إعادة 100 ألف مسلم روهينغي إلى ميانمار

GMT 07:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

نادال يُنهي 2017 في صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib