الأسئلة المبصرة

الأسئلة المبصرة

المغرب اليوم -

الأسئلة المبصرة

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

«السؤال بصير والإجابة عمياء»... أرسطو.
عبر العصور كان الإنسان يقدح قوة عقله بزناد السؤال. (الإنسان كائن يسأل). إذا غاب السؤال غفت الحياة، وسرى الفتور في حيوية ومفاصل الكيان وتصلبت شرايين الإبداع والعلم والفكر والخلق والتطور. «قُفل باب الاجتهاد»، قول صرخ به فقيه غاضب في حلقة زمن غشّاها رماد الخلاف والخوف. لكنّ تلك الكلمات الثلاث ظلت قفلاً على باب العقل العربي بل الإسلامي كله، وصار البحثُ عن مفتاح ذلك الباب الذي أُغلق يشكّل خطيئة لا يغفرها إلا الضرب على اليد التي تغربل تراب الزمان بحثاً عن المفتاح السحري القادر على فتح الباب الأسطوري الذي لا أحد يعلم أين يقع في الدنيا التي لا تتوقف عن الحركة والتغير.
مَن ذا الذي أعطى ذاك الحكيم العليم الحق في إصدار أمره الأبديّ بقفل باب الاجتهاد؟ هل علم أن كلماته تلك تعني إلغاء العقل وتحويله إلى شقفة حجارة جامدة تسكن الرؤوس والقلوب؟ بينما الحياة تلد كل يوم آلاف الأبواب التي مفتاحها العقل وحده؟ أكرر؛ الإنسان كائن يسأل، وحينما يتوقف عن السؤال يتحول إلى شيء لا حراك فيه ولا نَفَس. كل إنجاز علمي أو فكري أو تقني حققته البشرية كان إجابة عن سؤال طاف برحاب عقل سليم.
الفقيه الذي قفل باب الاجتهاد، ولا نعلم أين ألقى مفتاحه، ألقى العقل العربي والإسلامي في زنزانة مظلمة لم يدخلها ضوء السؤال لقرون. مَن حاول أن يغامر ويقدح ضوءاً بزناد عقله كان مصيره العقاب. ساح الظلام فوق الناس في المكان والزمان وغلَّ العقول ليس في مجال الفقه فحسب، ولكنه طال العلوم والإبداع والفكر. كان مع قفل باب الاجتهاد قفل آخر وهو مقولة «من تمنطق فقد تزندق»!
الصناعة الوحيدة التي ازدهرت لقرون في دنيانا، نحن معشر المسلمين، كانت صناعة الأقفال، وكل من حاول الاقتراب من الباب المُقفل كان مصيره العقاب. العلماء الكبار، أبو بكر الرازي الطبيب الفيلسوف وعالم الكيمياء والرياضيات ولا يزال تمثاله مرتفعاً بكلية الطب بباريس، أُلقيت عليه حجارة الاتهامات، وكذلك جابر بن حيان والخوارزمي وابن رشد والفارابي وابن الهيثم والكندي وغيرهم، وكانت تهمتهم الاقتراب من الباب المقفل. العقل بيت السؤال الذي يخلق الإجابات التي تحرّك قدرات الإنسان، ولكنّ سدنة الجهل والتخلف لا يُلقون سلاحهم بسهولة ولا يكفّون عن ملاحقة أهل العقول منذ سقراط الذي دفع حياته لأنه قدح عقول الشباب بزناد السؤال.
القلق الفكري كان رفيق المسلمين لقرون طويلة، فقد شكّل الموروث الفقهي حجارة ضخمة تنبت أشواكها الحادة الرهيبة بلا مواسم للزراعة والحصاد، فأدمت عقول وأجساد كل من اجتهد في العلم والفلسفة والدين: أبو حامد الغزالي اقترب من الفلسفة، لكنه فرَّ منها مسرعاً. ابن رشد الفقيه القاضي الذي ألّف في مجال الدين الإسلامي وأعطى جزءاً من عمره لفلسفة أرسطو، لم يغفر له تدينه خطيئة قدح زناد عقله فكانت عقوبته النفي وإحراق مؤلفاته بعدما دُمغ بحجارة الزندقة، وتسابق فلاسفة أوروبا لترجمة كتبه، وصورته بعمامته العربية عُلقت في قصر أمير فلورنسا بإيطاليا مع مفكري ومبدعي عصر النهضة. بقي الفقهاء يحفرون الخنادق العميقة المظلمة التي يلقون فيها بمفاتيح العقول ومعها أنفاس الأسئلة التي تنفع الناس وتشحن قدراتهم نحو الإبداع والاختراع وتسابقوا على صناعة كمامات التحريم السوداء الحارقة التي تُشيِّئ البشر.
اليوم لا مناص من كسر ذلك الباب الرهيب الذي التهم تراب الزمن مفتاحه، ولم يعد له وجود إلا في الوهم المراوغ بأفواه بقايا مومياء محنطة في أسمال دهر غابر.
إن فتح الأبواب لطوفان الأسئلة التي تموج في العقول منذ سنين، لتندفع الإجابات التي غابت وراء الباب الحجري الوهمي الذي سدَّ مسالك التقدم والنهوض على مدى قرون، هو المنقذ من الضلال والتخلف. كل زمن يبدع أسئلته ويُنتج إجاباته في إنجازات ملموسة تدفع الحياة إلى الأمام. الفلسفة كانت أمواج أسئلة، وكان جوابها العلم والاختراع والحرية وكذلك التطور السياسي والاجتماعي والقانوني والصناعي. صناعة الأبواب وأقفالها لا تكسرها إلا جحافل الأسئلة الكبيرة الجريئة التي تقدح عبقرية الإنسان الأبدية. في دنيا العرب والمسلمين، كانت تلك ملحمة طويلة ولا نزال نعيشها أو بعضاً منها. في عقود مضت، ألّف الأستاذ عباس محمود العقاد كتاب «التفكير فريضة إسلامية» منطلقاً من آيات قرآنية تدعو الناس إلى التفكير والتعقل والتدبر والنظر وبإلحاح رباني ترفعها إلى درجة الفريضة على كل مؤمن، وقال ما معناه إن التفكير فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ولكن بعد عقود من نشر كتاب عباس محمود العقاد الذي وقف طويلاً متعمقاً في قوله تعالى: «أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوبٍ أقفالها»، جاء مَن نشر كتاباً تحت عنوان «الفريضة الغائبة»، وهي العنف والقتل، بحجة أن الفريضة الغائبة هي الجهاد. المسافة بين الكتابين ليست مجرد مسافة زمنية، لكنها -ويا للأسف- تعبير عن أعراض الوهَن الفكري الذي يطال الرؤوس فتنزُّ صديد الجهل الذي يجعل القتل فريضة يستلّها من وراء تطرف معادٍ للحياة ويحرّف مضمون الدين الإسلامي. كتاب الأستاذ العقاد جاء في زمن الأسئلة الموضوعية، حيث كان العالم كله يعيش مرحلة فريدة من التطور والتغير بما فيها من سلام وحروب واستعمار وهبَّات تحرر، واعتقد العقاد أن التفكير هو طوق نجاة المسلمين في ذلك الخضم الكوني. الدكتور فرج فودة نشر عدة كتب ومن بينها كتاب «الحقيقة الغائبة»، لامس فيها قضايا ملتهبة على رأسها الإرهاب والتطرف وطرح طوفاناً من الأسئلة، وكانت الإجابة قتله ودفع حياته ثمناً لتلك الحقيقة التي لا نعلم متى تعود.
إن جرأة الفكر تهب البصر للحياة وتقدم الإجابات التي تدفع الحياة إلى الأمام.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأسئلة المبصرة الأسئلة المبصرة



GMT 22:27 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

تل أبيب ــ دمشق... سقوط الضمانات

GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 11:19 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
المغرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:20 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
المغرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 15:47 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل
المغرب اليوم - منح يحيى الفخراني جائزة إنجاز العمر من مهرجان الأفضل

GMT 16:06 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

منتجات لم يشفع لها الذكاء الاصطناعي في 2024

GMT 08:33 2017 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الطقس و الحالة الجوية في تيفلت

GMT 00:40 2018 الثلاثاء ,09 كانون الثاني / يناير

حطب التدفئة يُسبب كارثة لأستاذين في أزيلال

GMT 05:45 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

بنغلاديش تعتزم إعادة 100 ألف مسلم روهينغي إلى ميانمار

GMT 07:34 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

نادال يُنهي 2017 في صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib