بقلم:سوسن الأبطح
من حسن حظ توفيق الحكيم وعباس محمود العقاد أنهما دفنا بعيداً عن زحمة القاهرة، وأزمات العواصم التي لا توقر أحياءً ولا أمواتاً. دفن العقاد في مسقط رأسه أسوان، حيث اختار له يومها محافظ المدينة موقعاً خاصاً به على الطريق العام، ولا يزال مدفنه مصوناً ومعتنى به. أما توفيق الحكيم فنقل جثمانه إلى مدينته الإسكندرية. ويبدو أن الدفن لم يكن بالسهولة التي نتصورها لكبير في قومه؛ إذ كان لا بد من تدخّل المحافظ شخصياً، لاسترضاء حفّار القبور كي يتمنن ويتممّ المراسم، على اعتبار أن إذناً بالدفن لم يكن مع المشيعين. أما من دفنوا من الأدباء في القاهرة، فبعض عائلاتهم لا تزال تعاني رغم مرور عشرات السنين على موتهم. فمن الغرابة بمكان أن نرى الورثة يستغيثون، طالبين الرأفة برفات أحبابهم. وآخر طالبي النجدة هي الإعلامية نهى ابنة البديع الذي لا تملّ قراءة قصصه يحيى حقي. فهي لا تزال تبحث عن حلّ للجرافات التي تزيل القبور وتقترب سريعاً، من قبر والدها، ولا من يسأل. وقبل شهرين، كان ورثة طه حسين المدفون ليس بعيداً عن يحيى حقي، بالقرب من السيدة نفيسة، قد أطلقوا نداء مشابهاً بعد أن وضعت إشارة «إزالة» على القبر، إيذاناً بهدمه. وثمة فرق جوهري بين النقل والإزالة، فهل يتصور أحدنا أن يعامل صاحبا رائعة «الأيام» وتحفة «قنديل أم هاشم» بهذه اللامبالاة المعيبة. وصل الأمر بورثة طه حسين إلى حد التفكير في نقل رفاته إلى فرنسا، وربما كان مجرد تهديد، للفت النظر إلى جسامة قضيتهم. ففي ذكرى وفاته الخمسين، التي كان يفترض أن تتحول إلى وقفة سنوية كاملة للإضاءة على الدور النهضوي المفصلي لـ«عميد الأدب العربي»، وصاحب اللغة الباسقة، وجد أحبته الكثر أنفسهم في انشغال عن مضامين إرثه وفكره، بتأمين تربته وصيانة حرمة موته، وهذا مؤلم.
ومفارقة أكبر أن يأتي خبر هدم مقبرة يحيى حقي، ومن ثم اقتراح نقلها إلى مكان آخر، بالتزامن مع ذكرى وفاته الثلاثين، وبعد أشهر فقط من الاحتفاء به كشخصية العام في معرض القاهرة للكتاب.
قرب الأولياء الصالحين، وآل البيت، الذين كتب عن علاقة الناس بهم، وطقوسهم ونذورهم وآمالهم ودموعهم، أجمل النصوص، أوصى يحيى حقي بأن يرتاح ويغمض عينيه. لم يكن ليخطر له، بطبيعة الحال، أن التخطيط المدني الذي يصل متأخراً إلى بلاد العرب أكثر من 200 عام، سيجرفه مع أمنيته الأخيرة.
محظوظون هؤلاء العمالقة؛ لأن ثمة من يثير قضية محو قبورهم عن وجه الأرض أو نقلها، فيما تتألم مئات العائلات الأخرى على فقد أثر أحبتها، ولا تملك قوة الكلمة، أو الوصول إلى منبر لإيصال صوتها. والأموات على هذا النحو يعاملون في بلدان عربية كثيرة. ثمة قبور تنبش، وغيرها تسرق، أو تضيع أو يمحى أثرها، بعد أن ضاقت الأرض بما رحبت، ولا من يسأل. والأهمية ليست للقبر نفسه، بل لرمزيته، ولأحاسيس الأحياء بأن ثمة ما يدل على بقايا فقيدهم.
وبالعودة إلى يحيى حقي، فهو أكثر من كاتب، وأكبر من أديب. هذا رجل نموذج وقدوة. عني بالشباب وطموحاتهم، بحث عن الأساليب الأكثر نجاعة في التربية. كان تنويرياً صادقاً، تعددياً، حراً في الوقت الذي لم يكن فيه الكلام على الحرية موضة شائعة. أصوله التركية، زوجته الفرنسية، حبها للفن، معرفته الوثيقة بالقانون والحقوق، كلها أمور قربته من طلب العدالة، والجمال، وحثته على فهم أهمية تنمية ملكات التعبير.
يستحق يحيى حقي أكثر مما كتب عنه. جرّب أن تبحث عن أي مجال فني في مصر، تجد أن يحيى حقي كان من بين من وضعوا لمساتهم السحرية لإطلاقه أو المشاركة في بعثه. أطلق مجلة ترجمت نصوصاً أدبية من كل اللغات لتعريف أبناء بلده بالآداب الأجنبية، أسس المعهد العالي للسينما، هو أول من عني بجمع الفلكور المصري في الرقص، ومن هنا انبثقت فرقة محمد رضا. عاشق للتراث وللتعمق بعناصره، من النخلة إلى العصا إلى الأغنية، والخرافة. أرستقراطي يعرف خطورة رؤية الحياة من فوق. طلبه أن يدفن حيث هو اليوم، ربما لأنه أراد أن يبقى يتأمل أولئك الذين استوحى منهم أجمل حكاياته، ولا يتوقف عن تحليل وفهم أعماقهم.
القبر مجرد رمز، وشبابنا يحتاج إلى رموز، إن لم تكن موجودة فيتوجب اختراعها. يحيى حقي عاش وناضل وأنجز بيننا. حكاياه كما مسيرته تبعث كلها الحيوية في الوجدان.
منذ الثورة الفرنسية ولكبار قامات فرنسا، مقامهم في البانتيون، هناك في عظمته وبهائه، يرتاح جان جاك روسو، إميل زولا، فيكتور هوغو، سيمون فاي، فولتير، وغيرهم كثر. آخرون ضمتهم مقبرة بيرلا شايز، التي تحولت مع قبور فولتير، ومارسيل بروست، وبول إيلوار، إلى حديقة، لا يمكن لأحد أن يتخيل بأن تحذفها مشاريع مستجدة، وقد أصبحت المقبرة الأكثر زيارة في العالم.
لعل الوقت لم يتأخر لتدارك كارثة الاستسلام لفوضى في زرع القبور، كيفما اتفق. ربما علينا تنظيم حال الموتى بالتزامن مع إعادة النظر في مسار حياة الأحياء. لا لتخليد ميتٍ، بل لتذكر تجربته والامتنان لمن أثروا حاضرنا بماضيهم، ولا يزالون يلهموننا من قبورهم.