بقلم: الدكتور ناصيف حتّي*
دلت القمة الأخيرة للاتحاد الأوروبي التي انعقدت في بروكسل، في عاصمة أوروبا (13 إلى 15 ديسمبر/ كانون الأول)، على أن مسار البناء الأوروبي، في إطار ثنائية التوسيع، لضم أعضاء جدد، والتعميق؛ أي تعزيز مجالات التكامل والتعاون القائمة بين الدول الأعضاء، وبلورة مجالات أخرى؛ يعاني من أزمات عديدة. النزاعات القائمة والمتصاعدة على حدود الاتحاد في أوروبا (الحرب الأوكرانية)، أو على حدود أوروبا المتوسطية (غزة وتداعياتها)، إلى جانب بالطبع الأزمات والحروب الأخرى القائمة؛ تشكل عناصر ضغط مختلفة ذات تداعيات مباشرة ولاحقة على الاتحاد الأوروبي. كما أن منطقة اليورو تعاني من الركود والانكماش الاقتصادي وما لذلك من تداعيات تتخطى الشأن الاقتصادي لتطال المجالات الاجتماعية والسياسية ولو بأوقات ودرجات مختلفة. ويزيد من ثقل هذه الأزمة الحجم الكبير لديون الاتحاد الأوروبي التي لجأ إليها لمواجهة تداعيات جائحة «كورونا» على الاقتصاد والاجتماع في الدول الأعضاء.
وتحت العنوان الاقتصادي أيضاً أصيب الاتحاد الأوروبي بفشل مزدوج عشية قمته؛ فلقد فشلت المفاوضات لتعزيز التبادل التجاري مع أستراليا، وكذلك المفاوضات في المجال ذاته مع مجموعة دول «الميركوسور» (البرازيل والأرجنتين والباراغواي والأوروغواي). الهدفان لم يسقطا من أجندة الاتحاد الأوروبي لأهميتهما، ولكن دونهما الكثير من العوائق.
من أهم التحديات التي لم تنجح قمة بروكسل في التغلب عليها، تمثل في مسألة تقديم المساعدة الضرورية والموعودة لأوكرانيا، وهي بحدود خمسين مليار دولار (17 منحة و33 قروضاً على فترة سنوات ثلاث). المجر التي يحكمها اليمين المتشدد وضعت «فيتو» على توفير هذه المساعدات، ولم يكن ذلك مفاجئاً بسبب موقفها من الحرب الدائرة، واتهامها بأنها قريبة لموسكو. والجدير بالذكر أن الإجماع مطلوب في القرارات المتعلقة بالموازنة. وكان هنالك اعتقاد أوروبي أن الإفراج عن عشرة مليارات دولار مساعدات للمجر مع إبقاء الحجز على مبلغ آخر بحدود 21 ملياراً بحجة أن المجر شهدت تراجعاً في كل ما يتعلق «بحكم القانون» منذ وصول الحزب الحالي إلى السلطة؛ يشكل نوعاً من المقايضة المقبولة، ولكن المقايضة من طرف المجر تمثلت بخروج رئيس وزراء المجر من القاعة عند التصويت على إطلاق مسار انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي تلافياً لوضع «فيتو» على هذه العملية. ولا بد من التذكير أن ذلك ليس بالكافي؛ إذ إن الانضمام في نهاية المطاف، بحاجة لإجماع الدول الأعضاء. وكان ذلك بمثابة صدمة أخرى لأوكرانيا التي فوجئت قبل أيام برفض الكونغرس الأميركي الإفراج عن مساعدات مالية مخصصة لكييف. أمر عدّه عدد من المراقبين أنه بمثابة رسالة ضغط أميركية، من اليمين الأميركي الجمهوري تحديداً، على كييف فيما يتعلق بمسار النزاع والتسوية المطلوبة. وجاء إطلاق مسار انضمام أوكرانيا ومولدافيا إلى الاتحاد الأوروبي، كما قررت القمة، لزيادة التوتر مع الجار الروسي؛ إذ عدّته موسكو بمثابة موقف عدائي تجاهها. والشيء ذاته يتعلق بمنح جورجيا وضعية «الدولة المرشحة للانضمام». وفي السياق ذاته تنظر موسكو إلى القمة الأوروبية مع دول غرب البلقان الست التي سبقت قمة الاتحاد الأوروبي، والتي تأتي في إطار المفاوضات التي انطلقت بقوة في قمة تيرانا العام الماضي بين الطرفين، في طريق الانضمام. ويعمل الاتحاد الأوروبي على تطوير التعاون مع هذه الدول في كافة المجالات، ومن ضمنها المجالان الأمني والدفاعي، الأمر الذي تعدّه موسكو موقفاً توسعياً وعدائياً وفي منطقة ذات أهمية استراتيجية خاصة لموسكو، الأمر الذي يدل على تزايد المواجهة الغربية - الروسية في أوروبا، الأمر الذي يشل التعاون في البيت الأوروبي الأوسع بين الاتحاد وجيرانه.
ويرى الكثيرون أن هذه السياسات تغذي وتتغذى على عودة مناخ الحرب الباردة، ولو بأدوات وسلوكيات وعناوين مختلفة عن تلك التي طبعت الحرب الباردة الماضية والتي انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي.
من القضايا أيضاً التي طبعت القمة في نقاشات مختلفة، مسألة الهجرة اللاشرعية والتي تحظى بأولوية ضاغطة في أوروبا، وهي أحد أسباب الخلافات في البيت الأوروبي أيضاً، من خلال تبادل التهم بين معظم الدول الأوروبية بأن كلاً منها يحاول أن يرمي «جمرة» هذه الهجرة على الآخر وتحميله مسؤولية وكلفة التعامل معها. هجرة يرى كثيرون أنها تساهم من جهة وتوظف من جهة أخرى من قبل مكونات سياسية متشددة وبأشكال شعبوية واختزالية، في تحميل الاتحاد الأوروبي مسؤولية الأزمات الاقتصادية الاجتماعية الأوروبية في أوجهها المختلفة. وقد تظهر تداعيات ذلك في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو (حزيران) القادم.
ويضع الاتحاد الأوروبي على سلم أولوياته، وخاصة الدول التي تشكل البوابات الرئيسية للهجرة غير الشرعية، مسألة بلورة سياسات تعاون مع دول المصدر وكذلك مع دول الممر لمعالجة تلك المسألة وإقفال هذا الملف إن لم يكن كلياً فبشكل تدريجي، وهذا ليس بالأمر السهل بسبب الأوضاع الطاردة للناس في مجمل المجتمعات المصدرة للهجرة.
«الشرق الأدنى»، وتحديداً الحرب الإسرائيلية في غزة، «تغطت» تحت عنوان الحوار الاستراتيجي المعمق في البيان الختامي، تلافياً للخلافات القائمة في هذا الشأن بين الدول الأعضاء. فهنالك فقط 17 دولة مع وقف إطلاق النار، في حين «يتغطى» الآخرون بالدعوة للهدن الإنسانية. وقد أشار رئيس وزراء آيرلندا عن حق إلى أن أوروبا فقدت مصداقيتها أمام الجنوب العالمي، وهي تتبع سياسة الكيل بمكيالين. الخلافات الأوروبية في قضايا ذات تداعيات استراتيجية في الجوار المتوسطي وفي البيت الأوروبي مع وجود جاليات عربية ومسلمة كبيرة في بعض دولها، سيكون لها أثر على السياسات الداخلية أيضاً؛ فلا يمكن الهروب إلى الأمام تحت عنوان الدعوة إلى «حل الدولتين» تلافياً لأسئلة الحاضر بشأن سياسة إسرائيلية تعمل على نسف أسس هذا الحل.
السياسات الأوروبية الراهنة، ومن ضمنها المواقف الصادرة عن قمة بروكسل، في قضايا حيوية تخص مختلف جوانب الأمن الأوروبي، تدل على أن مسيرة البناء الأوروبي ودور «أوروبا القوة» (Europe puissance) وتعزيز هذا الدور على الصعيد العالمي، أمامها تحديات جمة في مرحلة تشكل نظاماً عالمياً جديداً.