بقلم مروان المعشّر*
ما حَدَثَ في مستشفى السَلط الحكومي في الأردن قبل أسبوعين من انقطاعٍ في الأوكسِجين تسبّب في وفاة سبعة أشخاص على الأقل يُعَدُّ كارثة بكل المقاييس. لكن حجم الكارثة يكبر إن قُمنا بالتشخيصِ الصحيح لأسبابها.السببُ المُباشَر لهذه الكارثة هو الترهّل الإداري الذي تكلّم عنه كثيرون، وما هو إلّا نتيجة لانهياِر منظومةٍ شاملة أكبر من القطاع الصحي، وهي منظومة إدارة البلاد والموارد وفق ثقافةٍ وأدواتٍ لم تَعُد تَصلُح لبناءِ الدولة الحديثة، وأصبحت نتائجها ماثلة للعيان في العديد من المواقع. وما كارثة مستشفى السلط إلّا واحدة من شواهد عدة تدلّ على مدى الضرر الذي لحق بإدارة الدولة الاردنية.من الضروري بمكان التشخيص الصحيح لما حدث، حتى لا يعتقد أحدٌ بأن الموضوع يُمكن أن يُحَلّ باستقالات أدبية أو حتى ملاحقات جنائية. إن الهيكل العام للإدارة الاردنية، بكافة مكوّناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحاجة إلى تجديدٍ شامل، وإلى تغيير جاد ومتكامل للنهج الحالي المُتّبع، وإلّا فلن تكون كارثة السلط هي الأخيرة،
ولنتقتصر على القطاع الصحي فقط.لقد تكالب عاملان رئيسان في العقود الماضية ليتسبّبا في الترهّل الإداري الذي نشهده حالياً. يكمن العامل الاول في التوسّع غير المعقول لحجم القطاع العام لدرجة أن الحكومة باتت تصرف كثيراً على معاشات الموظفين بدلاً من الإنفاق على البنية التحتية التي من شأنها تحسين نوعية الخدمة. وترافق ذلك مع التوسّع في ثقافة الواسطة والمحسوبية التي توظف الناس من دون النظر الى كفاءتهم بالشكل الكافي، ومن دون الاهتمام بتخصيص الموارد اللازمة لتدريبهم وتطوير أدائهم، ومن دون تحديثٍ لنُظُم الرقابة والمُساءلة، فالمحسوبية والمُساءلة لا تجتمعان، وهو ما أدّى الى ما نشهده اليوم من تراجعٍ واضحٍ في نوعية الخدمات المُقدَّمة، كما في أخلاقيات العمل، وثقافة الموظف العام الخادم للناس لأن الخدمة العامة تكليفٌ بكل معنى الكلمة، وليست تشريفاً لصاحبها.وإن كنا نشهد اليوم موتاً فعلياً للمواطنين بسبب نوعية الخدمات الصحية المُقدَّمة، فإننا نشهد أيضاً موتاً غير مباشر لجيلٍ كامل فشلنا في تقديم الخدمات التربوية المناسبة له أيضاً. وبعدما كُنّا نباهي المنطقة قبل عقود قصيرة بمؤسسات وصروح طبية وعلمية كالخدمات الطبية الملكية والجامعات الاردنية، بتنا نراقب الانحدار الساحق للصحة والتعليم من دون أن نُحرّك ساكناً.نعم، كلنا غاضبون لما حدث في مستشفى السلط، ولكن لننظر الى بيتنا الزجاجي قبل أن نرشق الآخرين بالحجارة. ألم نشارك نحن أيضاً في الجرم حين سمحنا للقطاع العام بمثل هذا التوسع؟ ألسنا شركاء في هذا الترهّل في كل مرة توسّطنا لشخصٍ للعمل في القطاع العام من دون حق؟ ألم يكن باستطاعتنا يوم كانت المساعدات الخارجية تتدفّق علينا للتخطيط للوقت الذي ستنحسر فيه هذه المساعدات لبناء اقتصادٍ مُعتمد على الذات، تعلو فيه قيم الإنتاجية والكفاءة على المحسوبية والزبائنية.نحترم ذكرى أرواح موتانا بل شهدائنا ليس فقط بمعاقبة من تسبّب بموتهم، بل بمراجعة كلّ النهج القديم وأسلوب إدارة الدولة. بغير ذلك، لن يتعدّى غضبنا فزعة آنية حتى تأتينا مصيبة أخرى هي نتيجة مُباشرة للنظام الرَيعي الذي ما عاد قادراً على إدارة البلاد.إن سلّمنا بما سبق، فنحنُ بحاجة إلى منظومةٍ جيدة تحتوي على عناصر عدة من أهمّها: الإبتعاد عن الثقافة السائدة بأن الحكومة هي المُشغِّل الرئيس للعمالة. فقد أدّت هذه الثقافة إلى تُخمةٍ نتج عنها ترهّلٌ إداري وتدهور نوعية الخدمات المُقَدَّمة. لا تستطيع الدولة الأردنية التشبّث بهذه الثقافة الريعية، وبغض النظر عن أسبابها. فإن كانت نشأة الدولة الأردنية تطلبت مثل هذه الثقافة، فقد انتهى ذلك الزمن الى غير رجعة. إن واجبَ الدولة يقتصر على إعداد النشء إعداداً جيداً يتلاءم مع متطلبات العصر، ولكن ليس من واجبها توظيف الناس في القطاع العام إلّا في حدودٍ مقبولة وضرورية.
إن إعدادَ النشء يتطلّب نظاماً تربوياً مختلفاً يُهيِّئهم للتعامل مع تحديات الحياة ومُتطلباتها المُتغيّرة باستمرار. أما النظام التربوي الحالي فلا يُتيح للأجيال الجديدة العمل خارج القطاع العام، وغالباً يكون عملهم داخله غير منتج.
على الدولة الأردنية تهيئة البيئة المناسبة للقطاع الخاص للتوسّع والحلول مكان القطاع العام لتوفير الوظائف الحقيقية لا المُصطَنعة، وذلك من خلال بيئة تشريعية تجلب الاستثمار وتُعظّمه، إضافة للبيئة التربوية المطلوبة أعلاه.
إبداء الجدّية في سنّ تشريعاتٍ تُجرّم الواسطة لطالبها ومُقدِّمها. باءت كافة المحاولات السابقة لتحقيق ذلك بالفشل، لأن السلطتين التنفيذية والتشريعية ليستا جاهزتين للتعامل مع انعكاسات مثل هذه التشريعات على نفوذهما.
الإبتعاد التدريجي عن تخصيص معظم الموارد المالية للأجور والنفقات الجارية وتطوير نُظُمٍ تدريبية ورقابية تُحاسب المُقصّر وتُكافئ المُنتِج مؤسسياً، بما في ذلك عدم ربط الترفيعات بالأقدمية فقط، وانما بالإنتاجية أيضاً.لن تُعالَج كارثة مستشفى السلط بأسلوب الفزعة والهلع وحناجر الصوت، وإنما باعتماد نهجٍ مؤسّسي جديد لإدارة البلاد تشترك في وضعه كافة مكوّنات المجتمع للإتفاق على أُطُرٍ جديدة من شأنها بناء دولة حديثة وحداثية في المئوية الثانية للأردن. مروان المعشّر هو نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يشرف على أبحاث المؤسسة في واشنطن وبيروت حول شؤون الشرق الأوسط. شغل منصبَي وزير الخارجية (2002-2004)، ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت خبرته المهنية مجالات الديبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والإتصالات.