يقول مرجع أمني-سياسي مخضرم أن مسؤولي الإدارة الأميركية إكتشفوا متأخرين جداً الأسلوب الذي اعتمده سابقاً مسؤولون سوريون راحلون لترويض الطبقة السياسية اللبنانية وتدجينها. هذا الأسلوب الذي كان قائماً على التهديد بالعقاب ورفع غطاء الحماية السياسية، من خلال التلويح بتسريب ملفات الى القضاء والى الإعلام حول إرتكابات فساد موثقة، ومن ثم ضبضبتها بعد إذعان هذه الطبقة وقبولها بتقديم الخدمات المطلوبة منها. أما في حال المعاندة إذا حصلت، يمكن عندها إفتداء ركائز الطبقة المذكورة بضحية هنا أو هناك كي يتم تبرير التحول في الموقف أو التراجع عن قرار ما.
ولا يتوقف التشبيه عند هذا الحد، إذ إن زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي دايفيد شنكر الأخيرة الى بيروت شهدت مستوىً من الترحيب، حتى ظننا أننا على أبواب إحتفالية لتقديم "مفتاح" له جرياً على العادة ولزوم الضيافة اللبنانية المتوارثة.
كيف لا وقد نجح المسؤول الأميركي في إدارة اللعبة السياسية الأميركية في لبنان على ثلاثة محاور، الأول: فرض إعلان ما سُمي "إتفاق الإطار" لترسيم الحدود الجنوبية مع كيان العدو، والثاني: تهيئة الأرضية اللازمة في محيط رئاسة الجمهورية لملاقاة هذا الاتفاق، والثالث: إلهاء ما يسمى هيئات "المجتمع المدني" بوعود وأمنيات حول إستمرار إدارته في دعمها حيناً، كما تحميلها مسؤولية تراجع مشروع "الثورة" حيناً آخر.• على المحور الأول، يحق لدايفيد شنكر أن يفخر بإنجازه "إتفاق الإطار" الذي تضمن في بنوده الستة أسس تفاوضٍ مباشر ضمناً وغير مباشر شكلاً، هذا بالإضافة الى إلزام لبنان بآليات تفاوض لطالما رفض قبولها متسلحاً بالدور المركزي للأمم المتحدة ليس كراعٍ فحسب، بل أيضاً كمنصة تقي لبنان شر التواصل المباشر مع العدو.
ففي البند الأول من هذا الإتفاق وإن امكن تجاوز ذكر تفاهم نيسان 1996 كمرجعية لتفاوض ثلاثي لبناني-أممي-إسرائيلي مع عدم مطابقتها للواقع الحالي، فإنه لا يجوز مطلقاً تجاوز إعتبار "الخط الأزرق" القضية الوحيدة العالقة على صعيد الحدود البرية في ما يعني القرار الدولي 1701، ناهيك عن قضايا لها أولوية تهم لبنان تبدأ بمطالبة المجتمع الدولي إرغام كيان العدو على وقف إعتداءاته على لبنان، ولا تنتهي بالإنسحاب الى الحدود المعترف بها دولياً وإعلان وقف إطلاق النار.
في البند الثاني، لا بد من التوقف عند الفقرة الأخيرة منه التي تلزم الوفد التقني اللبناني المفاوض التوقيع على محاضر الإجتماعات بعد إنتهاء كل واحد منها، مع العلم أن مثل هذه المحاضر ليست سوى مناقشات تحتاج الى موافقة السلطة السياسية عليها! وفي حال حصول تلك الموافقة يتم صياغتها كخلاصة يتم التفاهم لاحقاً على آلية لتثبيتها تمهيداً لإيداعها دوائر الأمم المتحدة المعنية.
في البند الرابع، يترك الأميركي لنفسه مساحة للمناورة بعد تحديد الحدود البحرية، وذلك من خلال تمرير عبارة international practice أو ما يعني "السوابق الدولية" كبديل محتمل عن القانون الدولي والمعاهدات!
أما الطامة الكبرى فتقع في الفقرة1 من البند الخامس، حيث تمكن شنكر وفريقه من تكريس "الخط الأزرق" كحدود برية من خلال إسقاط أي ذكر للحدود المعترف بها دولياً، التي يشدد عليها القـــرار الدولي425 والتي لا تحتاج الى أي تحديد أو ترسيم أو حتى تثبيت، والأسوأ من ذلك أيضاً إلزام لبنان بالتوقيع عليها.
إن "إتفاق الإطار" هذا إن لم يكن تطبيعاً هو بالتأكيد في حال تطبيقه أو إعتماده كمرجعية للمفاوض اللبناني، مرة أخرى هو بالتأكيد يتضمن في مفرداته وطياته ترتيبات سياسية وأمنية وربما لاحقاً معالجات إستثمارية مشتركة مع عدو، لطالما تجنب لبنان مقاربتها متمسكاً بثوابته الوطنية وبحقوقه السيادية غير الملتبسة والتي لا تحتمل التأويل مطلقاً.
وهنا لا بد من توجيه السؤال التالي للسيد شنكر: ورد في مقدمة إنجازك التاريخي هذا عبارة "...إن حكومتي لبنان وإسرائيل..." هل يمكن أن تدلنا على المسؤول الحكومي المعني الذي تفاوضت معه، أم أنك كما غيرك من بعض الديبلوماسيين الأجانب لا تقيمون وزناً للمؤسسات الدستورية ومن ثم تحدثون اللبنانيين عن أن الحل هو بإحترام الدستور والإلتزام بتطبيقه؟!!
• على المحور الثاني، نجح شنكر في محاصرة مساعي رئيس الجمهورية ميشال عون ومعه آخرين في قصر بعبدا وخارجه لأخذ ملف ترسيم الحدود الجنوبية الى مكانه الطبيعي أي الأمم المتحدة. كانت محاولة الرئيس الأولى إصدار مرسوم جديد يتم فيه تعديل الإحداثيات والخرائط التي وردت في المرسوم الذي حمل الرقم 6433 تاريخ 1/10/2011 حول تحديد حدود "المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة"، لكن الأصابع الخفية في دوائر القصر الجمهوري عملت على تأخير إصداره متذرعة حيناً بأن ذلك سيؤدي الى إستفزاز الوسيط الأميركي ومن خلفه العدو الإسرائيلي، باعتبــــار أن المرسوم الجديد يتضمن تغييراً جذرياً في مقاربة لبنان لموضوع الحدود البحرية، وحيناً آخر أنه سيصعب تمرير هذا المرسوم في حكومة تشهد صراعات حول مواضيع مختلفة أقل بكثير من مسألة حساسة وطنياً وسياسياً.
تبعت ذلك محاولة رئاسية أخرى لإرسال كتاب الى الأمين العام للأمم المتحدة كبديل عن المرسوم بعد إستقالة حكومة الرئيس حسان دياب. وهو كتاب حمل المضمون نفسه الذي تضمنه المرسوم خصوصاً لجهة الإحداثيات والخرائط، عندها بدأت المساومة حول ضرورة الفصل بين الكتاب المذكور كدعوة للأمم المتحدة للبحث في آلية لمعالجة مسألة الحدود البحرية، إستباقاً لإجراءات إسرائيلية تتعلق بفض عروض تلزيم الحقل 72، وبين الإحداثيات والخرائط التي يمكن أن تثير العدو الإسرائيلي وتدفعه الى إتخاذ خطوات تصعيدية ضد لبنان!
النتيجة أنه لم يصدر المرسوم كما لم يتم إرسال الكتاب لأن المطلوب كان هو الإفساح في المجال أمام الموفد الأميركي المعني دايفيد شنكر إتمام إنجازه عبر القناة الأخرى، والإعلان عنه وفقاً لمقتضيات المصلحة الإنتخابية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تسعى لمراكمة إنتصارات "تطبيعية" بين أطراف عربية وبين كيان العدو الإسرائيلي، الى جانب رغبة المرجعية الأميركية بتظهير مساحة نفوذها في الدوائر المحيطة بـ"حزب الله".
• على المحور الثالث، لم يحتج دايفيد شنكر الى أكثر من درس تأديبي عبر وسائل التواصل لممثلي ما يسمى هيئات "المجتمع المدني"، محملاً إياهم مسؤولية عدم القدرة على تحويل شعارات "الثورة" الى وقائع سياسية، ومحتفظاً لنفسه ولسياسة إدارته بحق التعامل مع بدائل من منظومة السلطة لبلوغ الأهداف التي حاولت إدارته التسلل لتحقيقها، من خلال اللعب على وجع اللبنانيين وآلامهم وفقرهم. بل كان الأسوأ ألا يبدي شنكر أي حرج من الإرتداد على وعود مسؤولي إدارته حول السير بفرض عقوبات على بعض المسؤولين اللبنانيين المتهمين بالفساد ونهب المال العام وتهريبه الى المصارف الخارجية، متذرعاً بأن التفاوض حول الحدود الجنوبية يفترض منح هؤلاء المسؤولين فرصة للوفاء بإلتزاماتهم في هذا المجال، إضافة الى الإنشغال بملفات إقليمية أخرى ذات أولوية تتقدم على أماني "المجتمع المدني"، بمحاسبة الفاسدين في السلطة على أيدي الراعي الأميركي الذي أخذ حصته حدودياً فأدار ظهره.
من المؤكد أنه يحق لشنكر أن يأمر وينهى في ما يتعلق بهيئات المجتمع المدني وما يسمى الـNGO,s الذين يدورون في فلك الأجندة السياسية لإدارته، التي هدفت الى حرف الإنتفاضة الشعبية المحقة عن أهدافها المطلبية المعيشية حصراً وإستغلالها للنيل من المقاومة.
لكن لا يحق له أو لغيره من الموفدين الأجانب مصادرة عناوين هذه الإنتفاضة أو التهديد بإعادة تحريكها وفق إيقاع سعيه لترهيب منظومة الفاسدين التي يتعاون مع بعض أركانها، لتحقيق مصالح إدارته السياسية.
في أي حال، تبين أن عدة الشغل الأميركية من منظمات غير حكومية أو هيئات مجتمع مدني أو ما أطلق عليهم جماعة السفارات من شيعة أو غير شيعة، ليسوا سوى «قنابل صوتية» لا قدرة لها مطلقاً على محاصرة «حزب الله» أو إيذائه سياسياً وإعلامياً، أو جره الى القبول بمقاربات إستراتيجية سيادية جديدة تمس وجوده كمقاومة... كما ثَبُتَ بما لا يقبل الشك «أن الصيت لهؤلاء بينما الفعل لغيرهم».
هنيئاً لك دايفيد شنكر، التلويح بالعقوبات وإستعمال نذر قليل جداً منها أتى بنتائج ربما أنت نفسك لم تكن تتوقعها.
*قيادي سابق في حركة «أمل»