بقلم : خالد منتصر
المشهد فى أتيليه القاهرة، ليل داخلى، صمت وحزن يخيمان على المكان بعد وفاة أمل دنقل، المخرجة عطيات الأبنودى تجهز لقطات كانت قد سجلتها مع «دنقل» فى الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام، تسلل وجلس فى المقاعد الخلفية، وتعمد أن يدخل والقاعة مظلمة أثناء عرض اللقطات مرتدياً «كاسكيت»، عرفته رغم خفوت الإضاءة، أعرف بصمة روحه حتى ولو أخفى ملامح وجهه، أحفظ رشاقة تعبيره، ولا أحتاج إلى بدانة البدن لكى أتعرف عليه، إنه صلاح جاهين، الكتيبة العبقرية الموهوبة التى تتلبس جسد فرد واحد، هو مَن يستحق ألف بطاقة هوية، لأنه كطيف قوس قزح الملون، تحاول لمسه بعد زخات المطر فإذا به يراوغك لتقترب منه أكثر وأكثر.كانت هذه الجلسة قبل وفاته بثلاث سنوات تقريباً، كان «جاهين»، المولود فى ٢٥ ديسمبر ١٩٣٠، فى أقصى حالات الاكتئاب، انسحب قبل انتهاء خطب الرثاء، كان كمن يقول: «زهقت خطب.. كفاية.. اتخدعت والناس اتهمتنى إنى خدعتهم.. كنت مؤمن بالخطب لغاية ما اكتشفت إننا ماتجاوزناش مرحلة الخطب.. وإنى كنت باجرى ورا سراب، وباروج لوهم»، تطاول عليه أحد الحاضرين الشباب محملاً إياه نتيجة ما نحن فيه!!، دمعت عيناى وأنا لا أعرف هل أبكى على أمل دنقل الذى هزمه السرطان، أم أبكى على صلاح جاهين الذى قهره الاكتئاب؟!مثلما كان نموذج مريض الكبد الذى يحكيه لنا أساتذتنا فى كلية الطب هو عبدالحليم حافظ، كان نموذج الاكتئاب الذى يساعدنا على فهم المرض هو صلاح جاهين، كنت أحب الطب النفسى، وأحب «جاهين» أكثر، كنت أحفظ تشخيص حالته «اضطراب وجدانى ثنائى القطب»، اسم صعب، ووصف علمى جاف، ولافتة باردة لا تخبرنا نحن الطلبة عن العبقرية والانطلاق والتميز الذى يختزنه هذا المريض، حالات انبساط وموجات حزن، قطبان ما بين البهجة حتى شاطئ الرقص وتخوم التنطيط والانطلاق، والحزن حتى حافة الانتحار وهوة الوحدة والتشرنق على الذات، كنا نعرف رفاقه من المبدعين فى رحلة الاكتئاب، كنا نعرف من الساسة «تشرشل»، الذى أطلق على المرض اسم الكلب الأسود، وأبراهام لينكولن وروزفلت، كنا نعرف من الفنانين والمبدعين عدداً لا يحصى، منهم: كافكا وكيتس وجوته وفان جوخ وإزرا باوند وهيمنجواى وفيرجينياوولف وشومان ومى زيادة وصلاح عبدالصبور وتشايكوفسكى وألبير كامى ومارلين مونرو، كنا نعرف أن الاكتئاب ليس وليد اليوم، فقد ورد فى العهد القديم قصة شاؤول الذى أصابته الأرواح الشريرة بحالة اكتئاب عقلى دفعته إلى الانتحار، ومن يقرأ مسرحية هاملت لشكسبير يقرأ وصف والد أوفيليا لهاملت عندما صدته ابنته التى كان يهيم بها البطل الدنماركى، يقول شكسبير: «فلما صدته عن نفسها، أصابه الأسى، ثم امتنع عن الأكل، ثم حرم النوم، ثم أصيب بالضعف، ثم ابتلى بالخفة، وبهذا التردى والهبوط بلغ درك الجنون الذى يهذى الآن فيه ويبكينا جميعاً عليه»، ونحن دائماً نبكى على عباقرة الاكتئاب بعد فوات الأوان.عندما أعلنت وفاة صلاح جاهين فى ربيع ١٩٨٦ تخيلناها كذبة أبريل، كما تخيل هو فى 1967 أن الهزيمة كذبة يونيو!، سحقت الهزيمة روحه وأكملت دائرة اكتئابه وأغلقت طوق الحلقة الجهنمية على عنقه، فالكثير من المثقفين علّق عار الهزيمة على عنق «جاهين»، واتهمه بأنه شارك فى صنع الوهم وتخدير الناس، اتهم «جاهين» بأنه دشن عقلية الديكتاتور عندما قال: «قول ما بدالك إحنا رجالك ودراعك اليمين»!، اتهم أيضاً بأنه سخّر موهبته لتجميل حلم قبيح يختبئ وراء قناع ذميم بزعمه أن تماثيل الرخام ستنتشر على ضفاف الترع المصرية المشبعة بقواقع البلهارسيا!.ذنب «جاهين» أنه آمن بالحلم وصدّقه وروّج له وحكاه وصاغه فناً وشعراً، كان الحلم جميلاً والأمل رحباً، وبقدر حجم الحلم والأمل جاء حجم الصدمة، كان «جاهين» خارجاً لتوه من اكتئاب فقدانه لنصف وزنه فى موسكو، اعتبر أنه قد فقد شقيقه التوأم، وبعد الهزيمة فقد نصف روحه فى القاهرة؛ حيث وصلته أنباء تدمير جميع طائراتنا وهى ما زالت رابضة على الأرض، وانسحاب جنودنا حفاة من سيناء يخنقهم ملح الدمع ودم الجرح الطازج النازف ألماً ومهانة، تضخم مارد الاكتئاب اللعين، وتضخم أكثر عندما قرأ وسمع تلامذته وزملاءه ينتقدونه بقسوة، وعندما حاول أن يستعيد توازنه وينتج أفلاماً استعراضية مبهجة لأن راداره الحساس كان يقرأ النبوءة كزرقاء اليمامة، ويعرف أن رعباً أكبر من هذا سوف يجىء!، رعب التطرف، تنبأ من خلال فيلم «خلّى بالك من زوزو» بسيطرة خفافيش الظلام على الجامعة، من الممكن أن تكون قد خانته صياغة بعض تفاصيل الفيلم الأخرى، ولكنها أخطاء من يحرث أرضاً جديدة ويخوض فى أحراش مجهولة مليئة بحقول الألغام.اتهمه نجم النقد السينمائى آنذاك سامى السلامونى بأنه ضحى بكل شىء من أجل الفلوس، خاصة أن «جاهين» كان منتج الفيلم، كان «السلامونى» أكثر النقاد شعبية بين القراء وأعذبهم أسلوباً بسخريته المريرة ولقطاته الذكية، وأنقل لكم اقتباسات مما كتبه «السلامونى» عن «جاهين» فى نهاية 1972 بمجلة الإذاعة والتليفزيون لرصد مسافة الجفوة بين التلاميذ والأستاذ، كتب قائلاً: «الفيلم يتناقض تماماً مع ماضى صلاح جاهين، بل يتناقض مع الكاريكاتير الذى يرسمه، بحيث يمكن أن نظن أن الذى يرسم والذى ينتج شخصان مختلفان»، ويضيف: «سخرية من كل شىء وتشويه لكل شىء وبيع للرقص والإثارة وعالم الكباريه، ثم بيع للقيم والمقدسات وأحلام المستقبل، هذه هى الإضافة الجديدة التى يقدمها فنان العشرين سنة الماضية الذى تحول إلى منتج»!.موهبة صلاح جاهين الجامحة، وجنونه الفنى، وبراءته الإنسانية، فيضان تعدى حواجز وسدود السماح والتسامح المصرى مع خيال الفنان، شاعر ورسام وسيناريست وممثل وكاتب أغانٍ ورئيس تحرير ومكتئب أعظم ومبدع عبقرى، كوكتيل إنسانى موهوب ومعطاء لم يحتفظ بالمسافة المناسبة بينه وبين السلطة فاحترق بنارها.