عانى «أبو الهول» على مر التاريخ من جراء الترميمات الخاطئة التى أثرت على كتلته، وقد دفع «أبو الهول» ثمن هذه الأخطاء. فى عام ١٩٨١ سقطت مجموعة من الأحجار من الجانب الشمالى لجسم «أبو الهول» واهتز العالم كله لهذا الحدث، وكتب الراحل كمال الملاخ بخط يده المعروف بالصفحة الأخيرة بجريدة الأهرام أنه يجب علينا الانتباه وترميم «أبو الهول» بطريقة علمية.
وفى عام ١٩٨٨ سقط حجر من الكتف اليمنى للتمثال، وكان ذلك نتيجة وضع طبقات من مونة الأسمنت على جسد «أبو الهول». ولم تراع هذه الطبقات النسب التشريحية وحجم الأحجار التى استعملت فى الترميم خلال عصر الدولة القديمة، أو تلك التى تم استخدامها فى العصر الرومانى، بل تم وضع كتل حجرية لا تناسب سواء فى الشكل أو الحجم النسب التشريحية للتمثال. ومن المعروف أن الحجر الجيرى يتنفس ويتفاعل من خلال مسامه مع التغيرات المناخية من حرارة ورطوبة وغيرها، وعندما نضع الأسمنت عليه فإننا نسد تلك المسام ونمنع جسم التمثال من أن يتنفس، وقد خرجت صحف العالم كله تتحدث عن مأساة «أبو الهول»، وكيف أنه أقدم مريض فى الوجود وقد تجاوز عمره ٤٥٠٠ سنه.
ونحن نعرف العلاقة بين «أبو الهول» والفراعنة من خلال القصص الغريبة التى وردت إلينا من عصورهم، فهناك ملوك استعملوا التمثال بغرض الدعاية السياسية لهم. وهناك من جاء من أجل عبادته فقط. بينما جاء ملوك آخرون للصيد والتنزه بجواره. وهنا لا بد أن أؤكد أن تمثال «أبو الهول» نحت فى عهد الملك خفرع ويعود إلى الأسرة الرابعة أى منذ حوالى ٤٥٠٠ سنة تقريبًا؛ شاهد خلالها تاريخ وعظمة مصر على مر العصور.
إن اسم «أبو الهول» فى اللغة العربية لا يعنى المعنى نفسه، بل جاء من خلال اسمه فى الدولة الحديثة حيث عرف باسم «بر- حور» الذى تحور إلى «بو-هول» بمعنى مكان حورس. وجرى هذا الاسم فى اللغة العربية إلى «أبو الهول». ونسبه الكنعانيون الذين أسرهم الملك أمنحتب الثانى، وعاشوا بجوار «أبو الهول» إلى إلههم «حورون» ولذلك سميت الحرانية على اسم هذا الإله. أما اسم «أبو الهول» بالإنجليزية «sphinx» فما هو إلا تطور من اسم مصرى قديم ينطق «شسب عنخ» بمعنى «الصورة الحية». وقد سماه اليونانيون بهذا الاسم عندما جاءوا إلى مصر وشاهدوا التمثال وشبهوه بنفس التمثال الذى قابل أوديب، حسب سرد الأسطورة اليونانية على مدخل المدينة التى كانت تحكمها أمه. وكانت هناك نبوة تقول إن من يحل اللغز الذى يطرحه «sphinx» سوف يتزوج ملكة المدينة.
تنتشر الأهرامات المصرية فى جبانة منف يجاورها المعابد الجنائزية. ويطلق على أهرامات الملوك ومعابدها اسم المجموعة الهرمية، وهى عبارة عن برنامج مخطط ومتكرر من واحدة إلى أخرى. ولكن «أبو الهول» ومعبده يمثلان عنصرين معماريين لا مثيل لهما من قبل أو من بعد عصر الملك خفرع. ولذلك فإن وظيفة «أبو الهول» فى الدولة القديمة كانت تمثل الملك خفرع، ابن خوفو، فى شكل الإله حورس وهو يتعبد إلى الإله رع - إله الشمس؛ الذى يعبد داخل المعبد أمام «أبو الهول»، والمعروف باسم معبد «أبو الهول». ويقول علماء المصريات إن المصرى القديم وجد هذه الصخرة المتبقية فى المنطقة التى استعملت كمحجر فغير هذه الصخرة ونحتها فى شكل «أبو الهول»، ولا بد هنا من التأكيد على حقيقة مهمة وهى أن المصرى القديم لا يمكن أن يضع تمثالًا أو أثرًا دون هدف دينى!، ولا يمكن أن يعمل شيئا من قبيل المصادفات!، هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد أى دليل علمى إلى أن خندق «أبو الهول» استعمل كمحجر لبناء الأهرامات لأن محاجر أهرامات الجيزة الثلاثة تم تحديدها إلى الجنوب الغربى من هضبة الجيزة. وأن المقابر التى تحيط بالأهرامات اغلبها بنى من الحجر الجيرى الأبيض الذى أحضره المصرى القديم من المحاجر الملكية بـ»طره«. والسبب فى أن المصرى القديم استحدث هذا العنصر المعمارى الجديد (أبو الهول ومعبده) هو سبب دينى متصل بالملك خوفو. ولذلك اعتبره المصرى القديم رمزًا لمصر وتجسيدا للملكية، ونحت التمثال فى الدولة القديمة بجسم أسد وبرأس ملكية للملك خفرع يحمل الكوبرا على الجبهة واللحية الملكية وغطاء الرأس.
وقد عثرنا أثناء عملية الترميم والتنظيف خلف راس «أبو الهول» على أجزاء من «النمس» (بكسر النون والميم) وهو غطاء الرأس، ملقى خلف رأس التمثال. وفى الدولة الحديثة أصبح «أبو الهول» يعبد فى شكل إله اسمه «حور إم آخت» أى حورس فى الأفق. وفى ذلك العصر كانت صحراء منف من الأماكن التى يأتيها الأمراء الذين يرسلهم الملوك للتدريب على صيد الحيوانات المتوحشة فى وادى الغزلان. ويقوم هؤلاء بزيارة «أبو الهول»، والذى كانت رمال الصحراء تهاجم جسده وتغطيه بالكامل. وأول من قام بإزالة تلك الرمال من حول جسد «أبو الهول» هو الملك تحتمس الرابع الذى رمم التمثال وبنى حوائط من الطوب اللبن لحمايته، ونقش لنا قصة ما حدث معه من «أبو الهول» على اللوحة المعروفة باسم لوحه الحلم.
وقد عثرنا على إحدى كتل الحجر الجيرى بمنطقة أثار أبو صير، التى تقع بين أهرامات سقارة فى الجنوب والجيزة فى الشمال، والتى تصور منظرا يمثل أميرا من أمراء مصر يقف بجواره مدربه ويمسك الأمير بالقوس فى يد والسهم فى اليد الأخرى وأمامه هدف التصويب ويقول المدرب للأمير: اضرب السهم فى المنتصف تمامًا ولا تجعله ينحرف يمينًا أو يسارًا.
لقد أضاف لنا ترميم «أبو الهول» الأخير والذى يعتبر من أهم أعمال الترميم العلمية الصحيحة التى تمت للتمثال- الكثير من المعلومات التى كانت مجهولة من قبل، والتى تفصح لنا أن موقع «أبو الهول» لم يأت بالمصادفة بل جاء بناءً على تخطيط عبقرى، وفهم دقيق. ومن أهم ما وصلنا إليه هو معرفتنا بالكيفية التى نحت بها المصرى القديم «أبو الهول»، حيث أدرك مهندسو وفنانو الملك خفرع أن صخرة التمثال متفتته ولا يمكن تشكيلها وإخراج ملامح التمثال!، وسبق أن أوضحنا فى المقال السابق تحليل صخرة «أبو الهول» من الناحية الجيولوجية؛ وقلنا إنها جزء من هضبة المقطم والتى تنقسم إلى ثلاث طبقات، الأولى والثانية تشكلان جسم التمثال حتى أعلى الصدر أما الطبقة الثالثة مثل الرقبة والرأس فهى على عكس الطبقتين الأولى والثانية أكثر صلابة وقوة، وهى التى شكلها الفنان المصرى القديم بأدواته الحجرية الصلدة والتى عثرنا عليها أثناء الحفائر. ورغم أن الكثيرين يعتقدون أن «أبو الهول» نسى تمامًا فى عصر الدولة الوسطى ولم نسمع عنه شيئا، فإننا عثرنا خلال الحفائر التى قمنا بها بجوار «أبو الهول» وبالتحديد فى الركن الشمالى على جعران من الدولة الوسطى مكتوب عليه بالهيروغليفية نصًا يحمل اسم ولقب رئيس الجيش، ويؤكد أن الاهتمام بزيارة «أبو الهول» والحج إليه خلال عصر الدولة الوسطى كان موجودًا أى منذ عام 1998 قبل الميلاد.
عندما قام الملك تحتمس الرابع بإزالة الرمال من حول جسد التمثال، وجد أن أحجار الدولة القديمة التى كسى بها التمثال قد سقطت بعد ٧٠٠ عام من تركيبها فقام بإعادتها كما كانت عليه وذلك فى عام 1550 قبل الميلاد، ولكن مهندسى الملك تحتمس لم يقوموا بإضافة أحجار جديدة، واكتفوا بهذه المعالجة لجسد لتمثال. وربما أراد مهندسو الملك تحتمس الرابع حماية التمثال من الرياح، حيث وجدوا أن الرياح تؤثر على «أبو الهول» من الجانب الشمالى الغربى، ورصدوا مظاهر التأثير ولذلك فقد قاموا ببناء حوائط أو مصدات من الطوب اللبن فى هذا الجانب لحماية التمثال ومازالت بقايا هذا الحائط موجودة إلى الآن. ويعتقد أن الأمير خعمواس، ابن الملك رمسيس الثانى العظيم، هو أول مرمم فى التاريخ، حيث رمم تمثال «أبو الهول». ولكن لا يوجد لدينا دليل مكتوب يوكد ذلك غير أننا نعرف أن خعمواس رمم الأهرامات وترك على هرم ونيس بسقارة نقشا يدل على ذلك. وأعتقد أن العالم المصرى أحمد فخرى أشار إلى وجود معبد لهذا الأمير أمام «أبو الهول». ولكن بعد ذلك وجدنا أن هذا المعبد يقع فى نزلة البطران وتم العثور عليه مؤخرا. وقد عثرت البعثة اليابانية على مقصورة لخعمواس فى مكان مرتفع بين أهرام سقارة وأبو صير كان يقف عليها ليشاهد عظمة صنعة أجداده، ويدرس أهراماتهم.
وفى عام ٥٠٠ قبل الميلاد تم ترميم الجانب الجنوبى للتمثال بأحجار متشابهة تماما مع أحجار هذا العصر وعليها بقايا ألوان حمراء. وقد أهمل «أبو الهول» تماما بعد ذلك التاريخ، وغطى جسده بالرمال حتى اختفى رأسه. وهذا هو السبب فى أن هيرودوت أبو التاريخ عندما زار منطقة الهرم فى ٤٥٠ قبل الميلاد لم يذكره إطلاقا لأنه لم يره، ولم يتحدث عن «أبو الهول» ضمن حديثه عن أهرامات الجيزة. ويعتقد أن الملك رمسيس الثانى اهتم بالتمثال أكثر من غيره، ونظرًا لأنه لم يأت للصيد فى وادى الغزلان فقد بنى مقصورة عثر داخلها على مناظر تظهر رمسيس وهو يقدم القرابين إلى الإله »حور ام آخت« (أبو الهول). وعثر بجوار «أبو الهول» على تابع حجرى مكسى، ولذلك يعتقد أنه كان هناك تمثال للملك رمسيس الثانى أسفل ذقن »أبو الهول«. ولم تحدث أعمال ترميم للتمثال فى العصر اليونانى، بينما اهتم الرومان بصفة خاصة بـ»أبو الهول«. فى عام ٣٠ قبل الميلاد كان موقع »أبو الهول« هو المكان الذى يلتقى فيه الشعراء. وكان يوجد مسرح صغير أمام «أبو الهول» تقام عليه المسرحيات الرومانية وعثر على لوحات بجوار »أبو الهول» عرفت باسم لوحات الأذن لوجود مناظر للعديد من الأذن. ولذلك كان يعتقد أن كثرتها سوف تنقل سريعا دعوات المتوفى ليسمعها «أبو الهول». وقام الرومان بتغطية مخالب «أبو الهول» بالأحجار الصغيرة.
يدخل «أبو الهول» فى طى النسيان وتعود رمال الصحراء سيرتها الأولى وتهاجم جسم التمثال وتغطيه تمامًا. وعندما دخلت الحملة الفرنسية مصر فى عام ١٧٩٨م، كان التمثال مغطى بالرمال تمامًا وقام الرسامون الفرنسيون برسم التمثال وقد غطته الرمال ولم يظهر منه سوى الرأس والأنف مهشما، وكذلك أجزاء من رداء الرأس «النمس». واستطاع فنانو الحملة الفرنسية رسم صورة رائعة لنابليون وهو يمتطى جواده ويقف أمام «أبو الهول». وقد قام بزيارة «أبو الهول» بعد أن دخل هرم خوفو وظل هناك ساعات طويلة ولم يحك لأحد عن هذه التجربة. ولا نعرف شعوره وهو داخل البهو العظيم لهرم الملك خوفو، ونحن لا نؤيد إطلاقا ما يقال بأن أنف «أبو الهول» هشمه نابليون، ولكن نعتقد فيما قاله المؤرخ العربى المقريزى، من أن شخصا يدعى صائم الدهر وجد أن الأهالى الذين يقيمون بجوار «أبو الهول» يتعبدون له كإله لذلك هشم الأنف، وكان ينوى تحطيم التمثال كله، لولا أن المقريزى يذكر لنا أن رياحا رملية عاتية قامت بتغطية الأراضى الزراعية المجاورة لأبو الهول، واعتقد الأهالى أن هذه هى لعنة «أبو الهول» لمحاولة تحطيمه!، هذه هى بعض أسرار «أبو الهول» وجزء من تاريخه.