مازال أبوالهول يبوح لنا بالعديد من الأسرار، ولا تزال الابتسامة الخفيفة تزين وجهه الشامخ، ومازال أيضًا رابضًا فوق هضبة الجيزة حارسًا لهذه الحضارة ولمصر على مر الزمان شاهدًا على آلامنا وأفراحنا وانتصاراتنا على مدى 4500 سنة، ومازال رمزًا لمصر والمصريين كما كان عند المصريين القدماء تمامًا. وأصبح يعرفه كل إنسان سواء كان طفلًا أو شيخًا طاعنًا في السن. العالم كله يعرف مَن هو أبوالهول، صاحب التاريخ والأسرار.
وسوف أقص عليكم قصة تشير إلى اهتمام البسطاء في مصر بـ«أبوالهول»، فبعد أن قمنا بإرسال الروبوت داخل هرم الملك خوفو، وشاهد هذا الحدث الملايين في كل مكان بالعالم؛ كنت أمشى في ميدان لبنان لمقابلة بعض الأصدقاء، وقد استوقفنى رجل رقيق الحال؛ كان يمشى ويتحدث بصعوبة. وما قاله خرج بشكل عفوى، حيث سألنى عن موعد الكشف عن أسرار الهرم، وسألنى عن حال أبوالهول وعن صحته!.
نعرف جيدًا أن «أبوالهول» حاليًا ليس له أنف أو ذقن، وليس لدينا منظر أو رسم من عصر الدولة القديمة يُظهر حال التمثال في هذا العصر، ولكن إذا دققنا النظر في وجه «أبوالهول» فسوف نجد أنه كان يحمل السمات والشارات الملكية المعروفة، مثل وجود حية الكبرى على الجبهة، وهى الحامية للملك، والطاردة لكل الشرور التي قد تحيط به، والذقن المستعار، وكذلك غطاء الرأس المعروف لدى المصريين القدماء باسم الـ«نمس، بكسر النون والميم». كان أنف «أبوالهول» كاملًا، وقد حاولنا إعادة بناء هذه الملامح ليس على التمثال، ولكن من خلال استعمال التكنولوجيا. وتم وضع هذه الشارات على الوجه والرأس وإضافة أحجار لتغطية الصدر والكتفين لكى نعرف شكل «أبوالهول» كما نحته الفنان المصرى القديم في عهد الملك خفرع- بانى الهرم الثانى، ابن الملك خوفو. وقد قمنا بوضع كل ملامح التمثال داخل جهاز الكمبيوتر، بدون أي إضافات غير تركيب الكوبرا والنمس والذقن. وتمت دراسة النسب التشريحية الموجودة بالتمثال، خاصة في الكتفين والصدر. واستطاع الكمبيوتر أن يُخرج لنا صورة كاملة لـ«أبوالهول» منذ أن شكّله الفنان الذي نحته تحت إدارة الملك خفرع. وكان هذا أول تصور وُضع لـ«أبوالهول» وإلى الآن.
وحاليًا تجرى عملية تطوير الصوت والضوء. ويقوم بتنفيذ هذا المشروع إحدى الشركات الخاصة. وقد قاموا بانتداب خبراء على أعلى مستوى، وسوف يتم تنفيذ المشروع معتمدًا على التكنولوجيا سواء بالنسبة للمؤثرات الصوتية أو تقديم كل ما هو جديد في عالم الأهرامات؛ من اكتشافات الروبوت، وكذلك محاولة إظهار منطقة الهرم كما خطّها المهندس المعمارى منذ حوالى 4600 سنة، وقد تجد الشركة المنفذة للمشروع في الدراسة العلمية شكل «أبوالهول»، وذلك عندما وقف أمامه الملك خفرع منبهرًا بهذا التمثال العظيم وذلك في عام 2994 ق. م.
وإذا نظرنا إلى وجه «أبوالهول» فسوف نجد أن أنفه مُهشَّم تمامًا، وقد خرجت علينا نظريات عديدة، وأستطيع أن أقول إن هناك حوالى 10 آراء خاصة بهذا الموضوع، ولكن أشهرها التي يعرفها العامة هي أن نابليون بونابرت هو الذي هشّم أنف «أبوالهول»!، وقيل إنه جمع جنوده، ووقف أمام أبوالهول، وأطلق الرصاص على التمثال. وبلا شك يجب أن نعرف أن الرجل الذي جمع بعثة علمية سجلت كل آثار مصر من الرسوم والنصوص، وفى نفس الوقت جاء نابليون، ودخل هرم خوفو، وانبهر بما شاهده؛ هل يمكن أن يعتقد أي إنسان أن نابليون هشّم أنف «أبوالهول»؟!. في الحقيقة أن أغلب علماء الآثار، وأنا منهم، يعتقدون في صحة الرواية التي تركها لنا المؤرخ العربى تقى الدين المقريزى في القرن الخامس عشر الميلادى، التاسع الهجرى. وملخص القصة أنه كان هناك رجل صوفى، يُدعى محمد صائم الدهر، ووجد أن الناس الذين يعيشون بجوار التمثال ينظرون له نظرة تقديس، ولذلك لم يعجبه أن يرى ذلك، وقام بالحصول على أداة حادة، وهشّم الأنف لكى يقول لهم إن هذا مجرد صنم!، ويُقال إن الريح هبّت على المنطقة، ودمرت الزراعات بعد هذا الحادث، ما جعل الأمر يسوء أكثر، ويؤمن الناس والسكان المحليون بأن لـ«أبوالهول» كرامات!.
أما بشأن عادة الالتحاء في الأعمال الفنية في مصر القديمة، فنذكر أن المصريين القدماء قد اعتادوا تصوير ملوكهم في العديد من الأعمال الفنية سواء كانت هذه الأعمال من فنون النحت أو النقش أو التصوير بلحية ملكية مختلفة النهاية، فمنها اللحية ذات النهاية المستقيمة، التي تؤكد في الغالب أحقية الملك في العرش، وتُظهره بمظهر الجلالة والهيبة الملكية المقدسة. وهذا النوع من اللحى هو الأكثر شيوعًا بين ملوك مصر الفراعنة، أما النوع الثانى من اللحى، وهو المنتهى بنهاية معقوفة، ويخص في الأغلب الإله في مصر الفرعونية، وقد اتخذها عدد قليل من الملوك الفراعنة، الذين ارتقوا في مقامهم بالدين والشعب كما لو أنهم آلهة، وقد منحهم هذه الدرجة الدينية الرفيعة شعبهم في حياتهم، وكان هذا نادرًا، وبعد وفاتهم والتحامهم في مملكة الأموات المقدسة؛ كان في الأغلب ما أوصلهم إلى هذه المكانة الإلهية الفريدة جلائل الأعمال التي قاموا بها من أجل شعبهم الذي أحبوه فأحبهم.
وأغلب الظن أن هذه العادة توارثها المصريون القدماء من عصور ما قبل التاريخ، حيث كان زعماء المقاطعات الصغيرة والأقاليم يتحلون باللحى دليلًا على سلطتهم الدينية والسياسية، وتطور هذا الأمر نتيجة توارثهم هذه العادة من الزعامات الدينية والسياسية المبكرة، التي كانت ترمز إلى جماعة من البشر وحدهم. وصارت بعد ذلك رمزًا لهم دون غيرهم من الجماعات البشرية الأخرى، وتشير التماثيل المنحوتة في عصور ما قبل التاريخ بمصر، خصوصًا منذ بداية العصر الحجرى الحديث، إلى ظهور التماثيل المصرية بلحى، فقد عثر الأثرى الألمانى جوزيف إيفجنر في حفائر في قرية مرمدة بنى سلامة في غرب الدلتا على أحد الرؤوس من الطمى، وتشير دراسة هذا الرأس إلى وجود ثقب أسفل الذقن، مما يؤكد أن هذا الرأس كان ملتحيًا، ويؤكد هذا بداية إعادة الالتحاء في مصر القديمة منذ 5500 عام قبل الميلاد.
سمع العامة عن ذقن «أبوالهول»، لأول مرة، عام 1981 عندما سقطت مجموعة من الأحجار من الجانب الأيسر للتمثال، وقد استطاع البعض أن يأخذ هذا الحدث كذريعة للتخلص من فؤاد العرابى، الذي كان يترأس هيئة الآثار في هذا الوقت. وفؤاد العرابى كانت له بصمات عديدة في عالم الآثار، فعلى الرغم من أنه لم يكن متخصصًا في الآثار، فإنه كان إداريًّا ناجحًا، يعرف كيف يتخذ القرارات المناسبة. وقد أحبه كثير من الأثريين، وأنا منهم. وقد قام بمشروعين من أهم المشروعات الناجحة التي يتحدث عنها العالم الآن: الأول مشروع الصوت والضوء بالهرم والكرنك، والثانى هو مشروع متحف الأقصر، الذي يُعتبر من أجمل المتاحف المصرية في العرض والإضاءة، هذا إلى جانب متحف النوبة الجميل، وبعد سقوط الأحجار خرجت صيحة في ذلك الوقت نحو استعادة ذقن «أبوالهول» من المتحف البريطانى لكى يتم تركيبها مرة أخرى، لكن ما سر ذقن «أبوالهول»؟.
القصة ترجع إلى عام 1816 عندما جاء إلى «أبوالهول» الإيطالى كافجليا وفى ذهنه الكشف عن سرداب ضخم يربط بين «أبوالهول» وهرم خوفو!، لذلك قام بحفر المنطقة الشمالية من جسم التمثال، وحفر خندقًا ضخمًا، واستطاع أن يصل إلى الرأس ويحصل على أول قياس علمى لارتفاع «أبوالهول»، وكان يعمل معه 20 عاملًا. وعثر على لوحة الحلم الشهيرة وعلى جزء من الذقن مهشَّم، وعلى معبدصغير للملك رمسيس الثانى أقامه بين مخلبى التمثال، وقد بقى منه لوحتان تُظهران الملك رمسيس وهو يتعبدأمام «أبوالهول». وعثر كافجليا على أجزاء بسيطة من الذقن كما قلت لا تزيد على 13% فقط من اللحية الأصلية، ولقد تم وضع جزء منها بالمتحف المصرى وآخر بالمتحف البريطانى. والجزء الموجود في المتحف المصرى معروض في مكان غير واضح.
وقد أرسل عبدالحميد رضوان، وزير الثقافة في ذلك الوقت، خطابًا إلى المتحف البريطانى يطلب فيه إعادة ذقن «أبوالهول» إلى مصر لكى يتم تركيبها مرة أخرى، وخاطب مجلس العموم البريطانى، الذي قرر رفض الطلب!، وهاجمت الصحف المصرية المتحف البريطانى، وذلك لرفض مسؤوليه إعادة هذا الجزء إلى مصر، وخاصة لأن ذقن «أبوالهول» لم يخرج من مصر بطريقة قانونية، بل أهداه كافجليا إلى الملك البريطانى، وكان يجب وقتها أن نقاطع المتحف البريطانى علميًّا وعمليًّا. وعلى الرغم من أننى أرفض تركيب الذقن لأسباب سوف أشرحها، فإننى من المؤيدين لضرورة عودة هذا الأثر لكى يُعرض بالمتحف المصرى بجوار الجزء الآخر.
أما عن أسباب رفضى فكرة تركيب الذقن فهى لأن ما لدينا يشكل جزءًا بسيطًا جدًّا من الذقن الأصلى، فلا يوجد لدينا أكثر من 13% كما ذكرت من قبل. وبالتالى سوف نكمل الجزء الباقى بالجبس، فهل نقبل أن نرى «أبوالهول» بهذا الشكل؟، كما أننا اعتدنا أن نرى «أبوالهول» بدون أنف وبدون ذقن. وأصبح شكله راسخًا في أذهان الجميع بوجهه الصامت، وبسمته الخفيفة، وإذا أكملنا الذقن والأنف، فسوف نُخرج تمثالًا جديدًا أمام العامة لم يعتادوا عليه من قبل، وهذا ما دفع الأثريين والمعماريين الذين نقلوا معبدرمسيس الثانى بأبوسمبل إلى ألّا يُكملوا الجزء الناقص من التمثال الثانى للملك رمسيس الثانى من الناحية الجنوبية. وتُرك الرأس، الذي فقده التمثال، مُلقًى بجواره كما كان مُلقًى على الأرض قبل نقل المعبد. لذلك فلن نقبل أن يعود أبوالهول إلى الماضى إيثارًا للمحافظة على صورته المحفوظة في الأذهان.
وهنا نتساءل: هل كان الذقن جزءًا من التمثال في عصر الدولة القديمة أم أنه إضافة إلى «أبوالهول» في عصر الدولة الحديثة؟. والحقيقة أن الكثير من الأثريين، وأنا منهم، يعتقدون أن الذقن يعود إلى الدولة القديمة، وهناك البعض الآخر الذي يعتقد أنه يعود إلى الدولة الحديثة، خاصة عندما عبدالمصريون القدماء «أبوالهول»، وأطلقوا عليه اسم حورس في الأفق، لكن أثبتت الدراسات الحديثة أن الذقن قد وُضع للتمثال عندما قام بنحته فنان الأسرة الرابعة