كلام أبسط ما يقال عنه إنه عين الجهل والتخلف ينتشر هذه الأيام من خلال فيديو مصور لسيدة لا أعرف مَن هى، ولا من أى جحر خرجت علينا!، تقول إن الفراعنة ليسوا هم بُناة الأهرامات، التى من صنع قوم عاد!.
والكارثة أنها تدَّعِى زورًا وبهتانًا أن ما تقوله هو كلام علمى لعلماء، وأنه منشور فى أبحاث علمية!، وقد ذهبت هذه السيدة إلى أن هرم خوفو مبنى من أحجار ضخمة عددها مليونان وثلاثمائة ألف حجر، وأن حجرة الدفن بُنيت من حجر واحد فقط من الجرانيت، وأنه لا يمكن نقل هذه الأحجار إلا عن طريق العماليق، وهم قوم عاد. وتستمر بجرأة تُحسد عليها فى الادعاء أن التماثيل العملاقة والمعابد الشاهقة تنسب خطأً للفراعنة، بينما هى لقوم عاد!، والدليل أنه حسب قولها هناك إصبع لشخص تم الكشف عنه طوله ٤٠ سم!، وداخل هرم خوفو عُثر على خرطوش لشداد بن عاد يثبت أنه صاحب الهرم!، وأن هذا الخرطوش اختفى تمامًا بفعل فاعل يريد طمس الحقائق، وأن الأهرامات لم تُبنَ كمقابر، ولكن بُنيت كقصور ومراصد أو كمحطات توليد للطاقة!.
بداية من المؤكد أن هذه السيدة لم ترَ الأهرامات التى تتجنى عليها رؤية العين، ولم تدخل يومًا إلى هرم الملك خوفو لترى حجراته وممراته، التى لا توجد بينها الحجرة التى بُنيت من حجر واحد مثلما تدَّعِى. كلامها كله كذب وتضليل، وليس هناك بالطبع دليل واحد يقبله عقل سليم لما تقوله. والمصيبة الحقيقية أن هناك مَن هو على استعداد لتصديق هذه الخرافات. بل هناك مَن يشجعون الناس على تصديق الخرافات التى تدور حول حضارة الفراعنة، ومنهم شخص إنجليزى يصيغ الكلمات بأسلوب شيق ومنمق يجعل البعض يصدقه.
لم أكن أرغب فى الرد على تلك الخرافات، ولكن أرسل لى العديد من الأصدقاء هذا الفيديو، الذى ببساطة يهدم علم الآثار، ويمحو أبحاث علماء حقيقيين كرسوا حياتهم لدراسة التاريخ والحضارات القديمة وآثارها. ولذلك سوف أعرض لكم هنا ردًّا علميًّا مختصرًا بقدر الإمكان لبيان الحقيقة ومحو الزيف الذى يحاول مثل هؤلاء وبشتى الطرق إلصاقة بالحضارة المصرية القديمة.
لا يوجد لقوم عاد وجود فى مصر، هذه حقيقة، حيث تم الكشف عن حضارات ما قبل التاريخ التى تسبق عصر بناة الأهرامات بآلاف السنين، ولا وجود فيها لقوم عاد أو منشآت ضخمة فى تلك العصور والأزمنة السحيقة. ولم يُعثر داخل أى جبانة سواء فى مصر أو غيرها على أى هياكل عظمية للعماليق، الذين تتحدث عنهم السيدة فى الفيديو المذكور، ولم يُعثر على إصبع لشخص طوله ٤٠ سم كما تزعم. أما الصور التى عُرضت مع الفيديو فقد سبق أن تم الكشف عن زيفها منذ سنوات بمجرد ظهورها، واتضح أنها صور مركبة، وبدون حرفية، ولا أساس لها على الإطلاق.
إن قصة العماليق وقوم عاد لم تظهر فجأة هذه الأيام، ولكن هناك دائمًا مَن يهوى الشهرة، وهناك أيضًا مَن لا يرضى بالحقائق العلمية البسيطة، فيشط فى تفكيره حتى يصل إلى حافة الجنون، وأحيانًا الجنون المطلق، فيصور له عقله المريض أنه على حق، وأن العلماء يحاربون نظرياته العبقرية. وهذا النوع للأسف لا يُجدى معه حديث أو جدال، فلن يسمع لصوت سوى صوت عقله المريض. أذكر أنه جاء إلى مصر شاب مصرى كان يقيم فى السعودية، وطلب أن يقابل الكاتب الراحل العظيم عزت السعدنى ليقدم له مجموعة أوراق تثبت، على حد زعمه، أن قوم عاد هم بُناة الأهرامات. وقال له عزت السعدنى: «سوف أتصل بالدكتور زاهى حواس لكى يحضر لمناقشتك أمامى فى هذا الموضوع». وبالفعل ذهبت إلى مكتب عزت السعدنى، وقابلت هذا الشخص، واتضح لى أنه مريض!، وكان مُصرًّا على أن هناك كشفًا فى سوهاج لجبانة بها هياكل عظمية لعماليق طولهم حوالى ٣٠ مترًا!، وقلت له: هل يُعقل أن يكون هناك كشف بهذا الشكل، ولا أعرف عنه شيئًا؟!. وقلت له إن الفيصل بينى وبينك هو أن نطلب مدير آثار سوهاج، وفعلًا تم الاتصال، وأكد الرجل بحزم أن هذا كلام ليس له أساس من الصحة. هنا قام الشاب غاضبًا وصرخ صراخًا هستيريًّا متهمنى والكاتب الراحل عزت السعدنى بالتآمر عليه!.
أما عن الزعم بأن الأهرامات ليست مقابر ولكنها قصور أو مخازن أو محطات توليد طاقة، فنؤكد أنه منذ بداية التاريخ المصرى القديم آمن المصريون القدماء فى البعث والحياة بعد الموت، وأن الصالحين سيعيشون فى الجنة، التى أطلقوا عليها «حقول الإياروا» فى العالم الآخر. ولذلك كان طبيعيًّا أن يتم الإعداد لهذه الحياة عن طريق بناء المقابر، ومنها المقبرة الملكية، التى تطورت بمرور الزمن فى الحجم والمخطط، وشيئًا فشيئًا أصبحت أهرامات. وقد استغرق هذا التطور للمقبرة الملكية مئات السنين منذ عصر الأسرات المبكر أو الأسرتين الأولى والثانية ثم عصر الأهرامات المدرجة خلال الأسرة الثالثة، وأشهرها هرم زوسر المدرج بسقارة، ثم محاولات بناء هرم حقيقى، وبعد فشل عدة محاولات خلال عصر الملك سنفرو، أول ملوك الأسرة الرابعة، ينجح أخيرًا المعمارى المصرى القديم فى بناء أول هرم ملكى حقيقى، وهو المعروف بالهرم الأحمر الشمالى بدهشور. ولو أن قوم عاد هم بُناة الأهرام، ولو أن الحجارة الضخمة كانت بالنسبة لهم مثل قوالب الطوب، فلماذا كل هذه القرون الطويلة وصولًا إلى أول هرم حقيقى بدهشور، وحجمه لا يصل إلى نصف حجم الهرم الأكبر؟!، ولماذا العثور على توابيت بأحجام عادية ومومياوات وأجزاء من مومياوات داخل الأهرامات؟، ولماذا هناك ما يُعرف بمتون الأهرامات، التى تُحدثنا عن رحلة الملك المدفون داخل الهرم إلى العالم الآخر، وكيف ستساعده الآلهة لكى يصعد إلى السماء لأن الشكل الهرمى هو بالفعل متصل بعقيدة البعث، وكما هو منشور فى متون الأهرامات، فإن الملك المدفون أسفل الهرم يستعمل الهرم سلمًا لكى يصعد إلى السماء؟!، ولو نظرنا إلى الفن فى عصور الأسرتين الأولى والثانية، أى منذ خمسة آلاف عام، وكذلك فى الدولتين القديمة والوسطى، فسوف نجد أن التماثيل تمثل الشخص الطبيعى، ولا توجد تماثيل ضخمة، ولكن بداية من الأسرة الثامنة عشرة، وخاصة عصر الملك أمنحوتب الثالث، تم عمل التماثيل الضخمة. وصارت سُنة متبعة عند الملوك، وتُظهر قوة الفرعون الذى يرهب أعداءه.
أما عن تمثال «أبوالهول» فهناك كتب الآثار، التى كُتبت بعد دراسات علمية وحفائر قام بها علماء حقيقيون متخصصون، منهم العالِم الكبير المرحوم سليم حسن وغيره، وقد قمت بنفسى بالحفر حول «أبوالهول»، وأثبت بالدليل الأثرى أنه ينتمى للملك خفرع، وأنه لا دليل على وجود أسرار مدفونة أسفله سواء لهؤلاء الذين هبطوا إلى مصر من الفضاء، كما زعم البعض، أو لسكان القارة المفقودة أطلانتس!.
الكتب العلمية التى تشرح تاريخ وعمارة ووظيفة الأهرامات موجودة ومترجمة بكل لغات العالم لمَن يريد أن يتعلم، ومنها كتبى وكتب علماء، مثل مارك لينر وميروسلاف فيرنر وغيرهما.
لقد كان الكشف عن مقابر العمال بُناة الأهرامات واحدًا من أعظم اكتشافاتى الأثرية، التى أفخر بها والتى أخرست ألسنة كانت تقول إن اليهود هم بُناة الأهرامات. وبعد أن كشفت عن مقابر العمال والفنانين ورؤساء العمال وأسمائهم ونقوشهم وهياكلهم العظمية، وذلك جنوب شرق أهرامات الجيزة و«أبوالهول»، أصبح العالم يعرف تمامًا من هم بُناة الأهرامات.
وفى السنوات القليلة الماضية، تم الكشف عن واحدة من أهم الوثائق التاريخية، التى تتحدث عن بناء الأهرامات، وهى بردية وادى الجرف على البحر الأحمر. وهى مجموعة أوراق بردى تمثل تقارير يومية لأحد المشرفين على فرقة من العمال، وهو المفتش «مرر»، الذى يقول إنه من الدلتا، وإنه عمل فى بناء هرم الملك خوفو، وقد ذكر أنه كان تحت رئاسته أربعون عاملًا. وقد ذهب إلى محاجر طرة، حيث كان هناك مئات الأشخاص، الذين يعملون فى قطع الأحجار، التى استُعملت فى كساء الهرم. وشرح لنا «مرر» عملية قطع الأحجار، وأن هناك مجموعة تقطع الحجر، وأخرى تهذب الحجر، وأخرى تنقل الأحجار على عروق خشبية وزلاجات إلى القوارب. أما الأدوات التى استُعملت فى القطع فكانت من حجر الديوريت. وكانت الأحجار تُنقل على حد قول «مرر» إلى مراكب نيلية كبيرة. ولدينا أدلة على أن المصريين القدماء قطعوا قناة مائية كبيرة إلى الناحية الغربية من النهر الحالى، وكانت متصلة بقنوات أصغر تصل إلى موانئ أمام الأهرامات، وكان يُنقل عن طريق الموانئ الأحجار التى تكسو الهرم، وبعد ذلك قال «مرر» إنه ذهب إلى وادى الجرف فى مهمة أخرى، وحدثنا أن الملك خوفو كان يعيش فى قصر بجوار الهرم، وأن المنطقة التى كان يعيش فيها خوفو يطلق عليها «عنخ خوفو»، أى خوفو يعيش. وبعد ذلك حدثنا أنه كان يعمل تحت إمرة عنخ خاف، المهندس المعمارى العظيم، الذى أتم بناء الهرم الأكبر، وكذلك كان هو المسؤول عن المنطقة الإدارية للمشروع كله، بما فيها منطقة الميناء والمخازن، وذلك فى عام ٢٧ من حكم الملك خوفو. وأكدت بردية وادى الجرف أن هرم الملك خوفو كان يطلق عليه «آخت خوفو»، بمعنى أفق خوفو.
لقد كان بناء الهرم مشروعًا قوميًّا لمصر والمصريين، الذين كانوا يشتركون جميعًا فى البناء بشكل أو آخر لكى يُدفن الملك المتوفى، وبالتالى يجلس الملك الجديد على العرش، وتتجدد خصوبة الأرض ودورة الحياة. وقد كشفت عن مجموعة من المناظر المصورة فى المجموعة الهرمية للملك ساحورع بأبوصير، تصور مجموعة من العمال يقومون بجر الهريم، الذى يصفه النص الهيروغليفى بأنه كان مكسوًّا بالـ«جعم»، أى الذهب الأبيض، (الأليكتروم خليط من الذهب والفضة)، وكان هذا الهريم هو آخر حجر يُوضع فى بناء الهرم. ومنظر آخر لمجموعة من الفتيات يرقصن احتفالًا بإتمام بناء الهرم، فى وجود الملك وأسرته والوزراء وعامة الشعب، وبالطبع لم يكن من بينهم عماليق أو قوم عاد.
أتمنى أن نسلك المنهج العلمى الصحيح فى البحث والمعرفة، وأن نتحقق من كل ما يُقال لنا عبر وسائل مسموعة ومرئية لم يعد عليها رقيب، فلابد من أن نتحقق وأن نبحث، ولا نعطى الفرصة للجهلة أو مَن يريدون تدمير العلم ونشر الخرافة بأن يصبحوا هم المرجع.