كان من أوائل الاكتشافات الأثرية داخل هرم الملك خوفو العثور على الممرات السرية التي يطلق عليها خطأً فتحات التهوية بالحجرة الثانية، المعروفة أيضًا خطأ بـ«حجرة الملكة»!. وتوالت بعد ذلك أسرار الهرم في الظهور؛ خاصةً عندما دخل الإنسان الآلى (الروبوت) داخل هذه الممرات في تجربة مثيرة وفريدة من نوعها شاهدها الناس حول العالم على الهواء مباشرة على اختلاف مواقيتهم.
وقبل أن أتحدث عن هذا الحدث الفريد في تاريخ الاكتشافات الأثرية حول وداخل الأهرامات المصرية، سوف أقوم بعرض ما جاء في دفتر يوميات المفتش «مرر»، الذي يحدثنا ولأول مرة عن الملك خوفو وعن بناء الهرم.. تلك هي البردية التي تعرف باسم «بردية وادى الجرف»، حيث عثر عليها في موقع ميناء بحرى من عصر الملك خوفو على شواطئ البحر الأحمر جنوب سيناء في منطقة وادى الجرف.
يعتبر كشف بردية وادى الجرف من أهم الاكتشافات الأثرية على الإطلاق، بل أرجو ألا يندهش أحد إذا قلت إنه الكشف الأهم عندى من الكشف عن مقبرة الملك توت عنخ آمون!. لقد أعلنت منذ أيام من أمام هرم الملك خوفو أن بردية وادى الجرف ويوميات المفتش «مرر» عن بناء الهرم هما الرد الحاسم على كل (الخزعبلات) التي تقال عن الهرم.. بل قلت إننا بفضل الكشف عن هذه البردية، نستطيع وضع حجر من الأحجار الملقاة حول الهرم في فم كل من يفترى بالقول إن الهرم ليس صناعة مصرية.
تسجل البردية يوميات أو حوليات العمل والمهام التي كُلّفَ بها «مرر»، الذي كان مسؤولًا عن أربعين عاملًا، ومن تلك المهام القيام بنقل أحجار الكساء الخارجى للهرم على مراكب كبيرة من طرة الجنوبية إلى «آخت خوفو»، وهو اسم هرم الملك خوفو بمعنى «أفق خوفو». سجل مرر بنفسه تلك اليوميات بالخط الهيراطيقى ووصف خط سيره من طرة إلى منطقة الإنزال بالقرب من هرم خوفو، بل ذكر أسماء رؤسائه وكبار المسؤولين عن العمل.
كتب مرر أنه عمل تحت إمرة الموظف «ددى»، وأن المسؤول عن بناء الهرم كان «عنخ خاف»، والمفاجأة التي لم أتوقعها هي أننى قد كشفت عن مقبرة «ددى» المذكور في البردية. وذلك من خلال حفائرى غرب الهرم وهى مقبرة صغيرة بها نقوش ومناظر تدل على أن الملك خوفو ارتضى على ددى بناء مقبرة بجوار هرمه.
ويبقى سؤال: هل من الممكن أن يكون «مرر» مدفونًا هو الآخر بجوار هرم الملك خوفو؟.. الإجابة نعم، لأن «مرر» يحمل لقب «سحدج- بمعنى مفتش»، وهناك مَن هم في مثل مرتبته ومدفون في الجبانة الغربية.
عثر على بردية وادى الجرف فريقٌ علمى فرنسى من المعهد الفرنسى بالقاهرة وجامعة السوربون في باريس، وذلك بين أعوام ٢٠١١ و٢٠١٣، ولم يكن أحد يتوقع أو حتى يتخيل أن بردية تتحدث عن بناء الهرم يمكن الكشف عنها في موقع ميناء تجارى قديم من عصر الأسرة الرابعة على البحر الأحمر.
من خلال البردية، نعرف أن «مرر» وعُمّاله كانوا يقيمون خلال وصولهم إلى منطقة بناء الهرم في المنطقة المجاورة لحيط الغراب، التي تُعرف باسم «عنخ خوفو»؛ أي «خوفو يعيش»، ونعتقد أن هذه المنطقة تقع في نهاية حيط الغراب من الجنوب، وهى المنطقة التي نعرفها باسم «را- شى خوفو»، أي «مدخل بحيرة خوفو». كان المفتش مرر وفريقه يقومون بالعمل في هذه المنطقة، حيث كانت هناك قناة تربط بين نهر النيل وتنتهى بميناء أمام الأهرامات، وقد كشفنا عن جزء من ميناء هرم الملك خوفو في المنطقة التي تقع في الشرق من ترعة المنصورية، وذلك أثناء قيام بعض الأهالى ببناء منازلهم.. وكذلك كشفنا عن ميناء الملك خفرع أمام منطقة معبدأبوالهول.
كان «مرر» وفريقه يقضون الليل في القرية التي كانت مخصصة للعمال الذين يعملون في بناء هرم الملك خوفو. كان «مرر» وفريقه ينقلون الأحجار من جنوب طرة إلى «را- شى خوفو»، ووصفها بالمنطقة المزدحمة، نتيجة وجود مجموعات وفرق أخرى من العمال تأتى من الشمال ومن الجنوب جالبةً معها كل ما يحتاجه البناء.
استغرقت مهمة «مرر» عدة أيام من لحظة القيام بتحميل الأحجار من محاجر طرة الملكية والإبحار وعبور النهر، ثم الدخول إلى القناة المائية التي تنتهى به ومراكبه عند منطقة «را- شى خوفو»، وكان مرر قد اضطر إلى البيات ليلة هو ورجاله في المنطقة التي أشرنا إليها من قبل، وفى الفجر استيقظ ورجاله وأكمل الإبحار متجهًا إلى محطة الإنزال، والتى تطلب دخولها الانتظار ساعات طويلة، وذكر أن المشرف على المنطقة التي تشبه في مفهومنا العصرى منطقة التجميع والتخزين ثم الإمداد والتوزيع هو المهندس «عنخ- خاف». وقد ذكر «مرر» التاريخ باليوم والفصل والسنة، والذى كان العام ٢٧ من حكم الملك خوفو.
أعود إلى الكشف الأول الذي تم داخل هرم خوفو، وهو استكشاف الممرات السرية، والعثور على ثلاثة أبواب حجرية في نهايات الممرات التي يطلق عليها خطأ «فتحات التهوية».
وهرم الملك خوفو هو الهرم الوحيد الذي يحتوى على حجرات يخرج منها ما يطلق عليه خطأ «ممرات أو فتحات تهوية»، وهى ممرات غامضة مربعة مساحتها ٢٠ في ٢٠ سم، تبدأ مداخلها في الجدارين الشمالى والجنوبى للحجرتين العلويتين. كان أول من كشف عن وجود فتحتى التهوية بحجرة الملكة هو الإنجليزى واينمان ديكسون عام ١٨٧٢، وذلك أثناء قيامه بفحص الجدران عن طريق الطرق عليها لكى يتبين له ما إذا كانت جدران مصمتة أم أن هناك فراغات خلفها. وبالفعل، أحس بوجود فراغ خلف منطقتين بالجدارين الشمالى والجنوبى، فبدأ باستخدام مطارق الصلب في التكسير والتى أخطأت للأسف المكان الدقيق للفتحة فأحدث تدميرًا حولها. عثر داخل الفتحة الجنوبية على خطاف برونزى صغير يشبه تلك الأدوات التي تستخدم في طقسة فتح الفم، بالإضافة إلى كسرة من الجرانيت وقطعة من الخشب الممزوج بالراتنج.
في عام ١٩٩٢ وكجزء من خطتى لإدارة الموقع، طلبت من المعهد الألمانى للدراسات الشرقية بالقاهرة مساعدتنا في تنظيف ممرات التهوية بحجرة الملك حتى يتسنى لنا عمل نظام للتهوية يقلل من نسبة الرطوبة داخل الهرم. وقام المصمم رودلف جانتنبرنك بتصميم روبوت أطلق عليه اسم الإله «وب واووت»، بمعنى «فاتح الطرق». كان الروبوت ذا حجم صغير يمكّنه من دخول تلك الممرات، وبعد الانتهاء من وضع نظام التهوية بممرات حجرة الملك، والتى اتضح أنها تفتح من حجرة الملك إلى خارج الهرم، قمنا بإرسال الروبوت عبر الممر الشمالى لحجرة الملكة عام ١٩٩٣.. حينها وجدنا المفاجأة، فقد انحنى الممر بشدة بعد مسافة ٨ أمتار ولم يستطع الروبوت المناورة. وذهبنا إلى الممر الجنوبى، وسار الروبوت حتى مسافة ٢٠٠ قدم، وتوقف أمام باب بمقبضين من النحاس، وعندما تم اختيارى من المكتشفين العظام.. وعددنا وصل إلى تسعة مكتشفين، منهم جان جودوا الإنجليزية، وكذلك بل بيلارد مكتشف موقع باخرة تيتانك في قاع المحيط.. وكان لكل مكتشف حلم. وقلت لهم إن حلمى هو أن أجد الروبوت القادر على استكشاف الممرات داخل هرم خوفو!.. بعدها قامت الناشيونال جيوجرافيك بإعداد روبوت أُطلق عليه اسم «بيراميد روفر».
مشى الروبوت داخل الفتحة الجنوبية حاملًا كاميرا صغيرة، وقمنا بعمل ثقب صغير لا يزيد على واحد سنتيمتر عبر الباب الحجرى لكى نتمكن من إدخال كاميرا دقيقة من خلال تلك الفتحة. وعندما نجحنا في ذلك كانت المفاجأة هي أننا شاهدنا خلف الباب بابًا آخر أو سدة تبعد عن الباب الأول بمسافة قليلة. وإذا دققنا في هذا الباب أو السدة نلاحظ أنه بلا مقابض نحاسية مثل الأول!.. بالإضافة إلى أنه يشبه السدة التي تستخدم لإخفاء شىء خلفها. بعد ذلك، دخل الروبوت إلى الممر الشمالى الذي دخله الروبوت الألمانى وتعثر به حين وجد أنه يميل إلى الناحية الشمالية ولا يسير في اتجاه مستقيم. ووجدنا أن هذا الممر ينحنى شمالا وجنوبا لمسافة ٢٤ قدمًا، وذلك لكى يتفادى البهو العظيم، وسار الإنسان الآلى متجهًا إلى الشرق حتى وصل إلى مسافة ٢٠٠ قدم، بعدها توقف أمام باب آخر بمقبض من النحاس.
مما لا شك فيه أن وظيفة ممرى التهوية بحجرة الملك تختلف تمامًا عن تلك الموجودة بحجرة الملكة، التي تنتهى بأبواب حجرية بمقابض نحاسية، ومن خلفها سدات لا نعرف سرها، ولا ما الذي تخفيه وراءها إلى يومنا هذا.
أما تلك الموجودة بحجرة الملك، فلها علاقة بتجول روح الملك خارج الهرم، حيث يمكنها الخروج من الفتحة الجنوبية واستخدام المراكب المدفونة هناك، وكذلك الخروج من الفتحة الشمالية والارتباط بالنجوم التي تمثل أرواح الملوك الأسلاف.
لقد قمت بالكشف، ليس فقط عن أسرار ممرات التهوية، بل تمكنت كذلك مع فريق علمى أثرى من جمع كل الجرافيتى: وهى كتابات العمال الذين بنوا الهرم والموجودة على جدران الحجرات الخمس التي تعلو حجرة دفن الملك الثالثة العلوية.. ومن خلال توثيق تلك الكتابات، كشفنا عن فرق العمال المشاركين في بناء الهرم وأسمائهم المميزة، وكذلك كشفنا عن تأريخ بالعام العاشر من حكم الملك خوفو.
أما عن الكشف الثالث الجديد والخاص بالممر المخفى داخل الهرم، والذى أعلنّا عنه منذ أيام.. فهذا هو حديثنا القادم بإذن الله.