تتجه أنظار العالم كله هذه الأيام إلى مصر، وتحديدًا مدينة الجمال والسلام، شرم الشيخ، حيث استقبل الرئيس عبدالفتاح السيسى ملوك ورؤساء وزعماء العالم من أجل مهمة سامية مصيرية، وهى إنقاذ الأرض والحفاظ على الحياة البشرية، التى باتت مُهدَّدة بفعل التغيرات المناخية، التى تتسارع وتيرتها بشكل غير مسبوق، وباتت الحياة على كوكب الأرض تواجه مصيرًا قاسيًا جعل البعض يصفونه بأنه فناء للحياة على الأرض!. ومن هذا المنطلق تأتى أهمية مؤتمر المناخ cop 27 بشرم الشيخ، والذى تأمل البشرية كلها أن يأتى بنتائج إيجابية تكون أساسًا للعمل المشترك بين دول العالم من أجل إنقاذ كوكبنا.
والحقيقة التى نحن أمامها هى أن قدرة مصر على تنظيم هذا الحدث كدولة إفريقية وعربية لها الكثير من الدلالات المهمة، التى يجب عدم التغافل عنها، وهى أن مصر دولة مؤثرة ليس فقط فى محيطها الإقليمى، ولكن بين دول العالم، ولولا ما قامت به مصر من خطوات جادة ومهمة نحو التوجه إلى استخدامات الطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات الكربونية، ولولا حالة الاستقرار التى تعيشها مصر، وسط عالم مضطرب ضربته الفيروسات الوبائية والنزاعات المسلحة، ما كانت مصر لتحظى بتلك الثقة، وتقوم مع منظمة الأمم المتحدة بتنظيم حدث عالمى خطير مثل مؤتمر المناخ cop27.
فى الأسبوع الماضى، سافرت إلى مدينة الأقصر، ضمن وفد كبير من علماء المصريات، للاحتفال بمرور مائة عام على كشف مقبرة الفرعون الذهبى، توت عنخ آمون. وكان ممن حضر إلى الأقصر المنتج الأمريكى الشهير، تيم كيلى، الذى جاء خصيصًا إلى مصر لتسجيل فعاليات مؤتمر المناخ بشرم الشيخ، وقد خطط للمجىء مبكرًا لكى يأتى أولًا إلى الأقصر ويحتفل معنا بمئوية الكشف عن مقبرة توت عنخ آمون ويقوم بالتسجيل معى على ضفاف نهر النيل بالأقصر عن الفراعنة، وكيف تعاملوا مع المناخ والبيئة من حولهم!، وعن سر هذا التناغم العظيم بين ما شيده الفراعنة من حضارة وبين البيئة المحيطة بهم!. الموضوع بالفعل مهم، ونادرًا ما يتعرض له الدارسون، وبالتالى وجدت أن من المهم إلقاء الضوء عليه بمناسبة عقد مؤتمر المناخ بشرم الشيخ.
إن أحد أعظم أسباب نجاح الحضارة المصرية واستمراريتها لآلاف السنين هو فهم الفراعنة لعناصر بيئتهم والمناخ الذى عاشوا فيه. وهَبَتهم البيئة المصرية الكثير من المواد والعناصر المهمة لبناء حضارتهم، فكان تنظيم وحسن استغلال ما منحتهم لهم البيئة عاملًا من عوامل نجاحهم. وكان نهر النيل هو المظهر الأكبر والأكثر خطورة فى حياتهم، يفيض كل عام، فيهب الأرض الخير والنماء ويوفر الماء العذب لكل كائن حى، لكن مجىء الفيضان كل عام كانت له حسابات دقيقة تؤثر على الحياة فى مصر، فإن جاء منخفضًا قلّت المحاصيل والماشية، وقد تتعرض البلاد للجفاف، وكذلك كان الحال مع الفيضان الضخم، الذى يدمر القرى، ويُهلك الأرض، وأيضًا يؤدى إلى مجاعة!، لذلك كان لابد من التعامل بشكل علمى مع فيضان النهر، وتنظيم مياهه للاستفادة القصوى منه. حفر الفراعنة الترع والقنوات المائية بشكل عبقرى لتوجيه المياه وحفظها واستغلالها، وكذلك شيدوا السدود الحاجزة ليس على مجرى النهر الرئيسى، ولكن عند فروعه وعلى جوانب مخرات السيول، مثل سد الكفرة فى حلوان. كان فهم الفراعنة لطبيعة النهر هو أساس نجاحهم فى التعايش معه، فلم يكن فقط مصدرًا للمياه والأسماك، وإنما وسيلة مواصلات مثالية لنقل كل بضائعهم شمالًا وجنوبًا. وليس أبلغ من أن الفراعنة كانوا يحددون بدقة متناهية مواقيت نقل المسلات والأعمدة الجرانيتية من محاجر أسوان إلى الشمال، وكذلك نقل التماثيل وأحجار الديوريت من محاجر النوبة إلى الشمال، وأيضًا مواقيت نقل الأحجار الجيرية الجيدة من محاجر المعصرة وطرة إلى الجنوب والشمال!. كان لنوعية الحمولة ووزنها مواقيت محددة لأنسب أوقات نقلها عبر النهر.
لقد خلد هيرودوت مقولته بأن «مصر هبة النيل»، وقد زاد عليها العلماء والباحثون، بعدما درسوا كيفية تعامل المصرى القديم مع النهر القول بأن «مصر هبة النيل والمصريين».
تأمّل الفراعنة عناصر البيئة من حولهم، فرأوا نهرًا يفيض وينضب، وشمسًا تشرق وتغيب، ونجومًا تلمع وتأفل، وزرعًا ينبت ويحصد، وحياة يعقبها موت تعقبه حياة، فى دورة لا نهائية، فبنوا معتقداتهم الدينية، وآمنوا بالجنة والنار والخالق الواحد الأحد لكون عظيم لا نهائى. وكان تقديسهم لعناصر البيئة من حولهم، وربطها بآلهة للهواء والرياح والشمس، وحتى الرطوبة والندى، تعميقًا لحقيقة إيمانهم بأن السبيل الوحيد للحياة هو التصالح مع البيئة وعدم معاداتها، فكانت مساكنهم تحترم النهر وفيضانه، فلم تُبنَ قط فى المناطق المنخفضة التى تطولها المياه، ولكن على الربى المرتفعة، ونوافذها تواجه الشمال لاستقبال ما سموه النسيم العليل. ومواد البناء كانت مما تجود عليهم به البيئة من مواد طبيعية من طمى وبوص وخشب وجذوع نخيل، بنوا من تلك العناصر أجمل المنازل والقصور، وكانت صلابة الطوب اللبن تعود إلى مواد الخليط، وبه ما نسميه التبن الناتج من حصاد الحبوب. وعرف الفراعنة المنازل متعددة الطوابق، وكانت حيوانات الفلاحين تُخصص لها أماكن تؤويها من الشمس والبرد وحيوانات الصحراء المفترسة. وكانت الصوامع تُشيد لحفظ الحبوب وتخزينها وحسن استغلالها وبشكل صحى يقلل الفاقد ويحافظ على البيئة. وشُيدت الجبّانات بعيدًا عن القرى السكنية فى الغرب وعلى حواف الصحراء.
لم يعرف الفراعنة شيئًا اسمه مواد مستهلكة فائضة أو ضائعة، حيث كان لكل شىء وظيفة واستخدام، فالفائض من طعام المنزل يذهب إلى ما تقوم ربة المنزل بتربيته من حيوانات وطيور، والعجيب، بل المدهش حقًّا، أنه ما من منظر لصيد الأسماك على جدران مقابر الفراعنة سواء بالشباك أو السنارة، وتجد أسماكًا صغيرة يتم صيدها، بل كانت أحجام الأسماك تشير إلى نوع معين من الشباك يسمح فقط بصيد الأسماك الكبيرة دون الصغيرة. واستطاع العلماء فى أحد المناظر إحصاء ٣٢ نوعًا مختلفًا من أسماك نهر النيل كانت تعيش به فى زمن الفراعنة، اختفى معظمها الآن!، وبنفس المنهج لا تجد منظر ذبح واحد لبقرة، وإنما ما يتم ذبحه فقط هو العجول والثيران البالغة حفاظًا على الثروة وعدم استنزافها. وحتى فى مناظر الصيد فى الصحراء كان المصرى القديم، وبوعى يثير العجب والإعجاب، يحافظ على التوازن البيئى.
الفراعنة هم أقدم الجيولوجيين على الأرض، درسوا طبقات الأرض، وعرفوا خواص كل طبقة.. ميزاتها وعيوبها وما بها من معادن يمكن استغلالها، فتحوا مناجم للذهب فى الصحراء الشرقية والنوبة، ووظفوا كل معدن ومادة خام الوظيفة المثلى التى تخدم حياتهم وعقائدهم، ووصفوا ما منحتهم الطبيعة بأنه هبة من الإله، يجب أن يُشكر ويُحمد عليها، ومن طرق شكر الإله على النعمة الحفاظ عليها وعدم إهدارها، لذلك كان مُجرَّمًا ليس فقط إلقاء الحيوانات النافقة فى مجرى النيل أو أى مياه متدفقة، بل إن مجرد التبول فى المياه كان جريمة يعاقب عليها الإله، كذلك كان مُجرَّمًا قطع شجرة أو تدمير زراعة، حتى وإن كانت مِلْكًا لعدو!.
إن التغيرات المناخية لا تهدد البشر والكائنات الحية فقط، بل إنها تهدد التراث الأثرى الثقافى للدول. هناك مدن بأكملها مُهدَّدة بالغرق بناسها وآثارها. هناك آثار أخرى من مقابر ومعابد باتت مُهدَّدة بالانهيار بفعل التغيرات المناخية، التى لم تعتد تلك الآثار أن تشهدها على مدار آلاف السنين.
إن الفهم الدقيق للبيئة والمناخ هو ما مكّن الفراعنة من التعايش السلمى مع البيئة، وهو ما مكّنهم من بناء حضارة استمرت آلاف السنين تشيد وتبنى وتعلم البشرية كلها معنى أن يكون الإنسان مؤثرًا على الأرض. ومن هذا المنطلق يكون مؤتمر المناخ المنعقد بمدينة شرم الشيخ فرصة للضمير الإنسانى لكى يحرص على العودة إلى ذلك التعايش السلمى على أمل خلق حياة أفضل للأجيال القادمة. لقد شاهدنا فى الأعوام القليلة الماضية تغيرًا ملحوظًا للمناخ بسبب ظاهرة الاحتباس الحرارى الناتجة عن زيادة الانبعاثات الكربونية. وللأسف الشديد، تضررت العديد من الدول، التى لا تُعتبر فاعلة بشكل كبير فى زيادة تلك الانبعاثات، فهى ليست من الدول الصناعية الكبرى، ومن تلك الدول التى تضررت بالتغيرات المناخية باكستان، التى ضربتها فيضانات عنيفة، دمرت تقريبًا ثلث البلاد، وأدّت إلى تهجير ملايين من سكان المدن والقرى. كذلك هناك العديد من البلاد الإفريقية التى باتت تواجه شبح الجفاف والمجاعة. ولم تنجُ البلدان الصناعية من التغيرات المناخية، فدول أوروبية باتت تعانى مؤخرًا جفاف الأنهار وندرة المياه. وهكذا نرى أن غضب البيئة لا يصيب مكانًا دون آخر، فالكل فى خندق واحد ما لم نصل إلى آلية عمل موحدة لإنقاذ كوكبنا، وإلا فلا أحد يمكن أن يتنبأ بالمصير الذى ينتظر البشرية كلها.
فخور بأن مصر تقف الآن فى طليعة الدول التى تتجه نحو الطاقة الخضراء والإدارة الذكية الخضراء، وفخور بأن الشباب المصرى أثبت للعالم كله قدرته على التنظيم.. فخور بأن أرض الفراعنة العظام هى أرضى وموطنى.