بقلم - زاهي حواس
هذا هو عنوان الفيلم الوثائقى الشيق الذي عرضته منصة نتفليكس الشهيرة، والذى حقق ملايين المشاهدات في كل مكان بالعالم، وقد تمت ترجمته إلى الكثير من اللغات المختلفة. ويُعتبر العمل الأول الذي يصور ويتابع عمل الأثريين المصريين. وبمجرد أن تم عرض الفيلم، فوجئت بعدد كبير من المكالمات التليفونية من أجانب شاهدوا الفيلم، ومنهم مَن أخبرنى أنه كان يبكى فرحًا وهو يشاهد هذا العمل الرائع الذي أعطى الأثريين المصريين حقهم. ومنهم مَن قال إن هذا الفيلم التسجيلى هو أفضل عمل وثائقى شاهده في حياته، وإنه الأهم على الإطلاق. وبالفعل برع مخرج الفيلم ماكس سلمان في إخراج العمل بصورة شيقة ومثيرة، بالإضافة إلى نجاحه في اختيار الموسيقى المصاحبة للصورة. وقد أخبرنى أن الناس قد أشادوا بأننى مَن قمت بدور الراوى بصوتى في الفيلم، بدلًا من الاستعانة بصوت أحد الفنانين الأجانب كما كان هو المعتاد في الأفلام السابقة.
ولابد هنا من توضيح أمر مهم جدًّا يجب علينا جميعًا فهمه واستيعابه، وهو أن المنصة العالمية نتفليكس ليست ضد مصر لكونها عرضت من قبل عددًا من الحلقات المسلسلة عن الملكة كليوباترا، والتى قامت بدورها ممثلة سمراء البشرة، واحتوى العمل على كثير من المغالطات التاريخية، إضافة إلى سوء العمل بشكل عام، حيث لم يَلْقَ أي نجاح، بل يمكن أن نقول إنه فشل فشلًا ذريعًا. وبالتالى فإن منصة نتفليكس- مثلها مثل باقى المنصات والمحطات- تنتج أعمالًا ناجحة وأخرى لا تصادف النجاح. وكذلك فإن المنصة لا تتوقع في كل عمل فنى تعرضه أن يحوز إعجاب كل الناس على اختلاف جنسياتهم وثقافاتهم.
أما عن قصة الفيلم الوثائقى عن الهرم المفقود فتعود إلى صديقى المخرج ليسلى جريف، الذي قام بإنتاج وإخراج عشر حلقات معى من قبل باسم «مطاردة المومياوات»، التي عُرضت في معظم القنوات والمحطات التليفزيونية التي يشاهدها الملايين حول العالم، كما أخرج أيضًا فيلمًا عن وادى المومياوات الذهبية بالواحات البحرية، وتم بثه على الهواء مباشرة لمدة ساعتين، وكان معى النجم الممثل العالمى بيل بولمان، وقام «ليسلى» أيضًا منذ عامين بإنتاج فيلم آخر عن اكتشاف جبانة للإله جحوتى، إله الحكمة عند الفراعنة، تم اكتشافها بالمنيا، وحظى الفيلم بملايين المشاهدات حول العالم. وقد أخبرته في أحد لقاءاتنا برغبتى في عرض اكتشافاتى في سقارة من خلال حفائرى بالموقع المعروف بجبانة الملك تتى، أول ملوك الأسرة السادسة في الدولة القديمة، وكذلك حفائرى بمنطقة جسر المدير بالقرب من هرم الملك زوسر. وشرحت له أهمية تلك الحفائر والاكتشافات، وأخبرته كذلك عن الحفائر التي يقوم بها الدكتور مصطفى وزيرى، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، بالجبانة المعروفة بجبانة البوباسطيين، والتى تقع بالقرب من الهرم المدرج، حيث حقق الكثير من الاكتشافات المهمة. وقد حدث بعد ذلك أن كنت في زيارة إلى لوس أنجلوس قبل ظهور وباء كوفيد- ١٩، وتقابلت هناك مع المسؤولين عن نتفليكس، وحدثتهم عما نقوم به من اكتشافات ووجدت أنهم متحمسون كثيرًا لموقع جسر المدير، وخاصة عندما قلت لهم إننى أبحث عن هرم الملك حونى، آخر ملوك الأسرة الثالثة من الدولة القديمة، والذى لا يزال هرمه مجهولًا إلى الآن. وتحدثت عن الأماكن التي أعتقد أن هرم الملك حونى ربما يكون بها، خاصة المنطقة المجاورة لهرم الملك سخم خت. وأثناء الاجتماع قلت لهم إن الأسرة الثالثة بدأت بحكم الملك زوسر ومن بعده الملك سخم خت، الذي قام ببناء هرمه، الذي كشف عنه الأثرى العظيم زكريا غنيم، وكان أعظم ما وجده داخل الهرم هو الكنز الذهبى الصغير للملك وكذلك التابوت المقطوع من الألباستر، والذى كان مغلقًا تمامًا وفوقه باقة ورد وُضعت أثناء جنازة الملك. كانت فرحة زكريا غنيم لا مثيل لها بالعثور على التابوت المغلق منذ ٤٥٠٠ عام، لذلك دعا زكريا غنيم جميع وسائل الإعلام العالمية والمحلية في صيف عام ١٩٥٤ لكى تحضر اللحظة الحاسمة لفتح التابوت ومشاهدة مومياء الملك صاحب الهرم!، ويتم فتح التابوت، وتقع المفاجأة الصعبة على رأس زكريا غنيم، فالتابوت خالٍ تمامًا من أي أثر لمومياء، ولا يوجد به ما يشير إلى أنه كانت توجد به مومياء من الأصل. لقد أخبرت المسؤولين بـ«نتفليكس» بأن ما حدث مع زكريا غنيم علمنى درسًا مهمًّا، وهو ألّا أقوم بفتح أي تابوت مغلق أمام الميديا.
وعندما قام الأثرى ميروسلاف فيرنر، رئيس البعثة التشيكية، بالكشف عن مقبرة المدعو «إيوف عا»، من الأسرة السادسة والعشرين حوالى ٥٠٠ قبل الميلاد، عثر على تابوت ضخم لصاحب المقبرة، وكان كل ما بحجرة الدفن يشير إلى أن لصوص المقابر لم يصلوا إليها، وأنها سليمة تمامًا. كنت أعمل يوميًّا مع البعثة في الكشف عن هذه المقبرة، واتصلت بوزير الثقافة في ذلك الوقت، الفنان فاروق حسنى، وحدثته عن الكشف وفوجئت به يقول لى: «هذا كشف مهم يجب أن نقوم بفتح التابوت في حضور الإعلام العالمى لعمل دعاية مهمة لمصر». عندها عدت مسرعًا إلى أبوصير، وأخبرت ميروسلاف بما قاله الوزير، وأننا يجب أن نقوم بفتح التابوت أولًا والتأكد من وجود المومياء قبل حضور الصحافة والتليفزيون إلى الموقع لكى نتفادى ما حدث مع زكريا غنيم وقصته مع التابوت الخاوى!، وبالفعل بدأنا العمل، وقام الريس طلال الكريتى وأخوه الريس أحمد الكريتى، رحمة الله عليهما، بفتح التابوت الأول، وعثرنا على تابوت رائع منقوش داخل التابوت الأول، وعندما رفعنا غطاء التابوت الثانى الداخلى وجدنا المومياء ملفوفة بالكتان وعليها الحلى والتمائم الخاصة بها، وبعد أن تأكدنا أن كل شىء في موضعه قمنا بإعادة إغلاق التابوتين انتظارًا لحضور الوزير ومعه وسائل الإعلام، وبعد أن حققنا لمصر الدعاية المطلوبة أخبرت الوزير بما حدث وما قمنا به لكى نتفادى أخطاء مَن سبقونا.
نعود إلى اجتماع نتفليكس، حيث تمت الموافقة على إعداد فريق العمل ووضع تصور كامل عن العمل بسقارة وكذلك تم اختيار المخرج ماكس سلمان للإخراج. وخلال عام ونصف العام تمت خلالها أعمال التصوير على مدار أربعين يومًا في ثلاثة مواقع مختلفة، أحدها مع الدكتور مصطفى وزيرى ومعاونيه بالحفائر والموقع الآخر بحفائر جسر المدير، أما الموقع الثالث والأخير فكان بجبانة تتى. وكان الاتفاق مع نتفليكس أن يكون فيلمًا وثائقيًّا، وأن يتم من خلاله عرض أجزاء عن حياتى وما أقوم به بعد الانتهاء من العمل، لذلك كانوا يقومون بالتسجيل في منزلى، وكذلك بأحد الفنادق، حيث أستخدم «الجيم» هناك للتريض، وكذلك خلال اجتماعات مجموعة الفرسان، التي تضم نخبة من الأصدقاء والمبدعين في مختلف المجالات. وقد قدمت لطاقم العمل الكثير من المعلومات، لكن حدث أنهم احتفظوا بهذا الجزء من الفيلم، ولم يتم عرضه نظرًا للحجم الكبير للمادة المصورة بالمواقع الأثرية، والتى تستحق أن تُعرض من خلال فيلم لا يزيد على التسعين دقيقة.
قمنا بالتسجيل بجوار هرم الملك تتى، حيث تم الكشف عن هرم جديد لملكة غير معروفة في التاريخ، وهى الملكة نيت، وقد وُجد اسمها على مسلة صغيرة لا تتجاوز المتر، وكذلك قمنا بالتصوير داخل مقبرة عُثر بها على توابيت رائعة تعود إلى الدولة الحديثة، إلى جانب الكثير من الأثاث الجنائزى.
وبعد أن تم عرض الفيلم وجدت أن المخرج لديه ما يصل إلى أربع ساعات تصوير لم تُستغل، وأنهم ركزوا التصوير داخل موقع البوباسطيين وحفائرى بجسر المدير وبجبانة تتى.
وقاموا بتصوير الدكتور مصطفى وزيرى أثناء كشفه عن أكبر بردية عُثر عليها حتى الآن، وقد أطلق عليها اسم «بردية وزيرى» على اسم المكتشف، الدكتور مصطفى وزيرى. وقاموا كذلك بتصوير التماثيل والتوابيت التي خرجت من هذا المكان الجميل. وقد قاموا بالتصوير مع الأثرى صبرى فرج، مدير عام سقارة، والأثرى الدكتور محمد يوسف، مدير المنطقة الأثرية بسقارة، وكذلك الأثرى محمد الصعيدى والعديد من الأثريين والعمال ورؤساء العمال. وبعد ذلك تم التصوير في منطقة جسر المدير، وقمت بالتصوير معهم، وأجبت عن مئات الأسئلة عن حياتى وعالم الآثار وكيف كانت البداية والوقوع في عشق الآثار، التي أصبحت كل حياتى على مدار أكثر من نصف القرن من الزمان. الغريب أن مخرج العمل وجّه لى سؤالًا محددًا أكثر من أربعة مرات، وهو مَن زاهى حواس؟!، وأذكر أنه خلال التصوير حدث أن جاء إلىَّ الأثرى عصام شهاب، المسؤول عن الحفائر بالموقع، وأخبرنى أنهم عثروا على شىء مهم يتطلب وجودى، وبالفعل كان ما عثروا عليه هو خبيئة رائعة لتسعة تماثيل من أجمل تماثيل الأفراد في الدولة القديمة، منها تمثال مزدوج لزوج مع زوجته وآخر لخادمة تقوم بتجهيز العجين، وتمثال لطفل. وعثرنا على بئر عمقها حوالى ١٥ مترًا، وبها ثلاثة تماثيل رائعة لشخص واحد اسمه «فتك»، بجوار مائدة قرابين، وتابوت ضخم داخله مومياء، ولم يُعرض الجزء الخاص بالموظف «فتك» بالفيلم الوثائقى. وكانت أجمل اللقطات المصورة بالفيلم هو نزولى إلى بئر عمقها حوالى ٢٠ مترًا لأجد تابوتًا حجريًّا ضخمًا في حجرة دُفنت بها قطع أثرية مهمة. ويعود التابوت إلى عصر الأسرة الخامسة. وتم تصويرى وأنا أنادى على الريس عمار، ريس العمال بالحفائر، وأطلب منه أن ينزل إلى البئر ومعه عامل واحد، كل هذا والكاميرا تتابع ما يحدث، حيث كان وزن غطاء التابوت حوالى ستة أطنان. وبدأ الريس عمار والعامل في رفع الغطاء، وأنا أتابعهما، وهذه هي اللحظة التي لا يمكن وصفها!، وعندما تم رفع الغطاء بمسافة تسمح برؤية ما بداخله، قمت بالنظر إلى داخل التابوت لأرى مومياء مغطاة بالذهب، وتُعتبر أقدم مومياء يُعثر عليها حتى الآن.
لم يكن التصوير يتم معى فقط، بل مع كل الأثريين والعمال بالموقع.
لقد أخبرنى مخرج العمل ماكس بأنه لم يتوقع حجم النجاح الكبير للعمل، ليصبح الأكثر مشاهدة على المنصة، التي عرضته تقريبًا في كل دول العالم. بل لقد أخبرنى أن مشاهدات الفيلم الوثائقى تقارن الآن بأفلام إنديانا جونز، وأن المشهد الذي لن ينساه طوال حياته، والذى يُعتبر الأفضل على الإطلاق بالنسبة له، هو مشهد المومياء المغطاة بالذهب داخل التابوت.
لقد حقق هذا الفيلم الوثائقى أكبر وأعظم دعاية لمصر وآثارها، ووضع الأثرى المصرى، لأول مرة، في المكانة التي يستحقها