المحاولة الانقلابية الفاشلة في السودان منتصف الأسبوع الحالي، لم تكن مفاجئة لجلّ أهل البلد وللمتابعين لأوضاعه. فكل المؤشرات كانت تنبئ عن عمل يدبر بليل مع تسارع المحاولات لتقويض الحكومة والفترة الانتقالية، وضرب الثورة وآمالها في الانتقال الديمقراطي. الضغوط والأزمات المعيشية اشتدت على الناس، وبعضها كان مفتعلاً في ظل العراقيل والمعوقات التي هدفت لضرب خطوات الإصلاح الاقتصادي التي تنفذها الحكومة. كذلك تصاعدت وتيرة الانفلات الأمني بشكل غير مسبوق حتى بات الناس لا يأمنون على أنفسهم في الشوارع بالنهار، وفي بيوتهم ليلاً. ترافق ذلك مع تأجيج غريب في خطاب الكراهية ونبرة الجهوية والقبلية والعنصرية، ليكتمل المشهد بالأحداث الأخيرة في شرق البلاد، وتعطيل العمل في الميناء الرئيسي وقطع طريق الإمداد الرئيسي الرابط مع الخرطوم.
وعلى الرغم من الاتهامات المتبادلة بشأن المحاولة الانقلابية، وبغضّ النظر عن مدى جديتها وما إذا كانت حقيقية أم بروفة لاختبار رد فعل الشارع ولتشتيت الانتباه والتهيئة لانقلاب قادم، فالحقيقة هي أنَّ كل الأطراف مسؤولة عن هشاشة الوضع الحالي وعن إضعاف الثورة. فهناك خلافات وصراعات بين مكونات قوى الحرية والتغيير، وتوتر شديد وشد وجذب بين المكونين المدني والعسكري في المعادلة الانتقالية. أضف إلى ذلك المعالجة التي تمت بها اتفاقية السلام بين الحكومة والحركات المسلحة، والتي وسّعت النزاعات ونقلتها إلى الوسط والشرق والشمال، وأججت بذلك الفتن والصراعات الجهوية.
كل هذه الأمور خلقت تعقيدات لم تعطل تحقيق أهداف الثورة فحسب، بل جعلت الناس يتحدثون لأول مرة عمّا هو أخطر، وهو الانزلاق إلى طريق حرب أهلية واسعة ومدمرة. والسودان بحاجة إلى معالجة سريعة للأوضاع المحتقنة حتى يمنع كل هذه السيناريوهات المرعبة، وهو ما لن يتحقق إلا بحل المنازعات داخل القوى المدنية وبينها وبين المكون العسكري، ثم معالجة الثغرات في ملف السلام، باستكمال تنفيذ بنوده وأهمها الشق الأمني، وضم حركتي عبد الواحد محمد نور وعبد العزيز الحلو إلى مساره.
كل هذه المعالجات مطلوبة، لكن أهمها في تقديري الآن معالجة التوتر المتزايد بين المكونين المدني والعسكري، فهو المفتاح لتجاوز كثير من المشكلات والمهددات. هذا التوتر المعروف للناس كان واضحاً بشدة في التباين بين كلمتي رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، عقب الإعلان عن المحاولة الانقلابية. فبينما اتهم حمدوك وكثير من القوى السياسية فلولَ النظام السابق وحركتهم الإسلاموية بتدبير المحاولة، فإنَّ البرهان حاول تفنيد ذلك نافياً وجود دليل على مشاركة جهة معينة، وذهب أبعد من ذلك عندما رمى المسؤولية على القوى السياسية وخلافاتها، داعياً إلى مشاركة الجميع في الفترة الانتقالية «من دون تحزب أو إقصاء»، والمعنى واضح.
وبينما أشار حمدوك مجدداً في كلمته إلى ضرورة تعزيز ولاية وزارة المالية على المال العام، في إشارة إلى الشد والجذب الحاصل حول وضع شركات القوات المسلحة، فإنَّ البرهان رمى بمسؤولية الأزمة الاقتصادية على الحكومة والمكون المدني.
رئيس المجلس السيادي حرص أيضاً على أن يقول إنَّ المكون العسكري هو الذي يحمي البلد، وإنَّ القوات المسلحة «هي التي تحمي التغيير وتسوقه إلى حيث تريد»، على حد تعبيره. والرسالة هنا يمكن أن تُفهم على وجهين: الأول أنَّ العسكريين في السلطة الانتقالية «يريدون قيادة البلد لانتخابات حرة نزيهة لاختيار مَن سيحكم»، كما قال، أو أنهم ممكن أن يدفعوا بها في طريق الانقلاب، وهو ما لم يقله، لكنه يمكن أن يُفهم من السياق ويخضع للتأويل والتحليل.
كان هناك تناغم واضح بين كلام البرهان وكلام الرجل الآخر في المشهد الراهن، وهو الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع الذي تحدَّث أول من __أمس، واتهم بشكل واضح ومباشر المكون المدني قائلاً إنَّ السياسيين هم الذين أعطوا الفرصة للانقلابات وأهملوا المواطن ومعاشه وانشغلوا بالصراع على الكراسي.الواقع أنَّ هذا التوتر المتزايد بين المكونين العسكري والمدني هو أكبر تحدٍّ أمام الفترة الانتقالية، ومن دون حسمه لا أمل في تقديري لأي استقرار في هذه المرحلة، أو التي تليها بافتراض أنَّ البلد بقدرة قادر استطاع أن يتجاوز كل الصعاب والمطبات والتحديات أمامه، ووصل إلى محطة صندوق الانتخابات والديمقراطية.
هناك من يدعو إلى مواجهة مع المكون العسكري لإعادة هيكلة القوات المسلحة وتطهيرها من فلول النظام السابق والمتغلغلين في صفوفها، ممن يأتمرون بأمر الحركة الإسلامية، لكن هذا الأمر على أهميته، فإنَّه يحتاج إلى وضعه في ميزان دقيق ينظر إلى الأولويات ويعرف كيفية تحقيقها وترتيب خطواتها.
صيغة الشراكة بين المكونين المدني والعسكري حددتها الوثيقة الدستورية التي وضعت خريطة طريق الفترة الانتقالية، لكنَّها حفلت بثغرات وعيوب خطيرة يدفع الناس ثمنها الآن. ولأنَّه لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وكتابة تلك الوثيقة من جديد، فإنَّ المطلوب الآن هو معالجات حصيفة تصل بالبلد إلى بر الأمان وتحقق أهداف الثورة في الانتقال الديمقراطي.
هناك أمور تحتاج إلى التعاون مع المكون العسكري كي تتحقق، ومنها بالطبع إعادة هيكلة القوات المسلحة، إضافةً إلى تنفيذ الشق الأمني من اتفاقية السلام التي حفلت هي الأخرى بعيوب خطيرة ضمنت المحاصصات والمناصب وأبقت السلاح في أيدي الحركات بل أدخلته إلى العاصمة. الصراع بين المكونين المدني والعسكري سبب أساسي في التعطيل الذي حدث، والمطلوب الآن خطوات جريئة لتجاوز الخلافات، وتنفيذ أهداف الثورة وصولاً إلى صندوق الاقتراع.
ما الذي سيحدث لو فكرت قوى الحرية والتغيير خارج الصندوق، وقررت التنازل للمجلس العسكري عن رئاسة مجلس السيادة في الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية، مقابل اتفاق بالتزامات محددة، ومحكومة بجدول زمني لتنفيذ هيكلة القوات المسلحة، وتحقيق البنود الأمنية في اتفاق السلام، والتوافق بشأن موارد شركات الجيش وولاية وزارة المالية على المال العام؟
كثيرون قد يجدون هذا الكلام صادماً، لكن العبرة ليست فيمن يرأس مجلس السيادة، بقدر ما هي في كيفية تأمين المرحلة الانتقالية والعبور بها من هذه المرحلة الخطرة، لتحقيق أهداف الثورة. المكون المدني يرأس الجهاز التنفيذي وهذا هو المهم، ولن يجني من رئاسة مجلس السيادة فائدة أو إضافة تُذكر لو كان الثمن هو المزيد من المشكلات والمطاحنات والمخاطر.
وضع المكون العسكري أمام مسؤولياته لتنفيذ أجندة المرحلة الانتقالية، قد يكون أفيد في هذه المرحلة من مجرد وجود مدني في رئاسة المجلس السيادي.
الذين يقولون إن خطر المحاولة الانقلابية لا يزال قائماً، لا يتحدثون من فراغ، فاليوم يوجد إلى جانب فلول النظام الساقط، كثيرون من الطامعين في السلطة وفي عرقلة الانتقال للديمقراطية. ومع هؤلاء أيضاً يوجد متربصون بالسودان، في ظل أوضاع هشة تستدعي معالجات جديدة تحمي الفترة الانتقالية، وتحقق الوصول إلى صندوق الانتخاب، وتحمي السودان من مخاطر جدية محدقة.