بقلم - نديم قطيش
هل أغلق الباب تماماً على احتمال التوصل إلى تفاهمات إقليمية ودولية مع إيران تساعد على ترويض نظام الملالي؟
آخر الضربات التي تلقاها معسكر المتفائلين بسهولة التفاهم مع طهران، جاء عبر قرار البرلمان الأوروبي الذي يطلب من الاتحاد الأوروبي إدراج الحرس على القائمة السوداء لـ«المنظمات الإرهابية»، بما يشمل فيلق القدس الموكل بالعمليات الخارجية، وقوات الباسيج، بالإضافة إلى حظر «أي نشاط اقتصادي أو مالي» مع الحرس من خلال شركات أو مؤسسات قد تكون مرتبطة به.
تكمن أهمية هذا التطور في أن أوروبا لطالما كانت، ولأسباب اقتصادية وسياسية، أقرب لمنطق تحسين العلاقات مع طهران، إلى حد إبداء الاستعداد للاشتباك السياسي مع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، بعد خروجه من الاتفاق النووي. وقد سعى الثلاثي الألماني البريطاني الفرنسي بشكل يائس عام 2019 لإبقاء الاتفاق حياً، من خلال ابتكار الآلية المالية «إنستكس» للسماح لإيران بالتبادل التجاري مع الشركات الأوروبية، وحماية الأخيرة من العقوبات الأميركية، من دون أن يوفق في ذلك.
قرار البرلمان الأوروبي يقفل أو يكاد قوساً ضخماً ظل مفتوحاً في تاريخ العلاقات الإيرانية مع الغرب، ويبدد أو يكاد الكثير من الأوهام حول إمكانية ترويض إيران، ومعالجة القضايا والمخاوف المتعلقة بسياساتها الداخلية والخارجية. ولعل ما سرّع في هذا التحول الأوروبي أن إيران ارتكبت الخطأ الاستراتيجي القاتل بدخولها المباشر على خط الحرب الروسية الأوكرانية، عبر تزويد موسكو بمسيرات وصواريخ تقصف داخل أوروبا، ما جعل طهران جزءاً من تهديد الأمن الأوروبي المباشر لا مصالح أوروبا في الشرق الأوسط وحسب.
ماذا بعد؟
المثير أن لا مقاربات للانخراط الدبلوماسي والسياسي لحل «المسألة» الإيرانية أثمرت، ولا اللجوء إلى أسلحة العقوبات وغيرها من أشكال الضغط نجحت في تغيير سلوك نظام الملالي. فبعد إبرام الاتفاق النووي زاد السلوك الإيراني التخريبي في الشرق الأوسط، وبعد الانسحاب منه واغتيال قاسم سليماني، زاد الانكفاء الإيراني إلى الداخل لتعزيز قبضته على الدولة والمجتمع، واستخدام الاثنين في التهيئة لانقضاض جديد حين تحين الفرصة. أما الحل العسكري الشامل، فهو دعوة انتحارية ستعود بالويلات على دول الشرق الأوسط كافة. وأما عزل إيران فدونه عقبات كبيرة في ظل تغلغل إيران في النسيج الاجتماعي والسياسي لعدد من دول الجوار؛ مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن، بالإضافة إلى صلاتها بميليشيات متعددة الخلفيات المذهبية والعقائدية من «حزب الله» إلى «حماس» إلى «القاعدة» و«داعش»، ما يعطي إيران قدرات على توظيف الآخرين في خدمة مصالحها، كما في إيذاء خصومها.
الأكيد أنه لا توجد إجابات سهلة بشأن السبيل الأمثل لترويض إيران، إن كان ترويضها ممكناً؛ لذلك يصر عدد من واضعي الأوراق السياسية بشأن كيفيات التعامل معها على الدعوة دوماً إلى اعتماد مقاربات معقدة واستراتيجيات دقيقة ومتعددة الأوجه، ينطوي الكثير منها على رهانات على الداخل الإيراني نفسه، والاستفادة من الديناميكيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة والدقيقة الجارية داخل إيران.
ومن الطبيعي أن تزدهر مثل هذه الدعوات اليوم في ظل الحراك الشعبي المندلع في إيران منذ مقتل الفتاة الإيرانية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق. الأهم أن خيار الرهان على الداخل الإيراني تعززه متغيرات كبيرة أصابت الشخصية الوطنية الإيرانية بعد نحو نصف قرن من العيش في ظل التبعات الكارثية لنظام الثورة.
فلم تعد مثلاً تلعب المشاعر القومية العميقة الجذور بين الإيرانيين الدور الذي كانت تلعبه في السابق، وبات الإيرانيون أكثر استعداداً لتقبل الدعم الخارجي، بل السعي إليه على نحو غير مسبوق في تاريخ التجربة السياسية والاجتماعية الإيرانية التي قامت على تاريخ مديد من الثقافة الانتيكولونيالية، والنفور الحاد من النفوذ والتدخل الأجنبيين.
لقد كان لافتاً في هذا السياق مثلاً الترحيب الشعبي الإيراني داخل إيران، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بإعلان رئيس شركة «سبيس إكس» إيلون ماسك، توفير ما يقرب من 100 محطة استقبال أرضية لخدمات الإنترنت المؤمّنة عبر شبكة «ستارلينك» للأقمار الصناعية داخل إيران. يظهر ذلك أن ميل النظام الدائم إلى إلقاء اللوم على العوامل الخارجية بشأن مشاكل البلاد، بات يفتقر في نظر الإيرانيين إلى أدنى حدود المصداقية.
هذا واحد من الملامح الرئيسية التي يجب على الإدارة الأميركية والحكومات الغربية التنبه لها، والخروج من العقدة الغربية تجاه إيران، والتي تختصرها بشكل مرَضَي تجربة التدخل لإطاحة حكومة محمد مصدق عام 1953، وإعادة تنصيب الشاه مكانه. الإيرانيون اليوم في مكان آخر، وفي هذا المكان الآخر تقع نقطة التلاقي بين كل من له مصلحة في إنهاء الدور التخريبي الإيراني في العالم.
صحيح أن النظام الإيراني نظام ذو طبيعة معقدة ومتعددة الأوجه، بيد أن الرهان على تناقضات المكونات «الديمقراطية» والدينية والسلطوية، أملاً بحصول التغيير وإهمال الديناميات الشعبية الجارية، وعدم ملاحظة حجم انفصالها عن النظام برمته، هو خطأ فادح ارتكب في السابق، وأخشى أنه يرتكب اليوم، ولن يكون الإيرانيون وحدهم من يدفعون الثمن.
ثمة إيران جديدة لا تسمح بالفانتزمات التي سادت خلال حقبة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، كنظرية مارتن إنديك عن «الاحتواء المزدوج» لكل من العراق وإيران، أو مبادرة «حوار الحضارات» التي أعلنها الرئيس كلينتون في خطاب ألقاه عام 1997، أملاً في فتح قناة رسمية للتواصل بين البلدين عبر المثقفين والأكاديميين، والزعماء الدينيين الأميركيين والإيرانيين بهدف خفض التوتر.
شيء من ذلك حاولت إدارة الرئيس باراك أوباما إحياءه، لا سيما لناحية رفع العقوبات، من دون الالتفات المنصف إلى التغييرات التي طرأت على المجتمع والنظام الإيرانيين، ثم رجع إليه الرئيس جو بايدن بعناد يفتقر إلى أي عمق سياسي حقيقي أو فهم مركب لحقيقة الدور الإيراني لا في الشرق الأوسط وحسب، بل في العالم برمته.
فشلت محاولات كلينتون للأسباب نفسها التي أفشلت محاولات أوباما وبايدن، وخلاصتها أن المعارضة المتشددة في إيران تخشى أن يفقد النظام مبرر وجوده إن هو فقد طبيعته الثورية التي تضعه دوماً على تناقض تام مع قوى الستاتيكو في الإقليم وفي العالم.
تكفي العودة إلى ما كشفته تسريبات وزير الخارجية الإيرانية السابق محمد جواد ظريف حول دور الجنرال قاسم سليماني، وسطوته على المفاوضات النووية وعمل الحكومة والسياسة الخارجية، وتغليبه الدائم «لمصالح الميدان على المصالح السياسية»، ليُفهم جوهر النظام الإيراني ولتُبدد كل الأوهام على صفقة ممكنة معه.
ليس سهلاً بالطبع على الحكومات والدول أن تنتظر انهيار النظام من الداخل لا سيما أن التكهن باحتمالية الانهيار أو توقيته مسألة غير ممكنة علمياً وغير عملية سياسياً. فمن غير الواضح ما إذا كان الحراك الحالي سيتطور إلى ثورة شاملة ضد النظام، على الرغم من تزايد راديكاليته، كما أنه لا تظهر تشققات جدية في بنية النظام السياسية والأمنية والمؤسساتية على الرغم من التباينات الكثيرة التي يزداد التعبير العلني عنها. لكننا أيضاً بإزاء نظام يواجه انهياراً اقتصادياً مركباً تسببت فيه حزمة قاسية من العقوبات الاقتصادية والفساد إلى جانب تدني عائدات النفط، والجفاف، والتبعات الاقتصادية لجائحة «كوفيد - 19»، وهو نظام يواجه سخطاً شعبياً متنامياً بسبب القمع السياسي لاحتجاجات تطالب بحقوق فردية بديهية، أو تحتج على تدهور الأحوال المعيشية التي لا يمكن نكرانها.
الحد الأدنى المطلوب هو مواكبة الجاري في إيران بعين جديدة تفهم الحالة التي آل إليها النظام، والتغييرات التي طرأت على المجتمع وقواه المتنوعة.