غداً يغادر دونالد ترمب البيت الأبيض بشكل رسمي. يمضي الرجل نحو معارك جديدة ونحو تحديد مصير سياسي تتحدد في ضوئه مصائر أربعة:
1- البراند: لم يتلطخ اسم ترمب طوال تجربته السياسية والتجارية والشخصية بمثل ما تلطخ به يوم 6 يناير (كانون الثاني) الحالي.
لاعبون كبار في مختلف القطاعات شرعوا في الابتعاد العلني عنه. مدينة نيويورك نفسها أعلنت أنها عازمة على إنهاء عقود مع «مؤسسة ترمب» تطال أنشطة ترفيهية ورياضية مشتركة بين حكومة المدينة والرئيس المنتهية ولايته.
كبريات شركات التكنولوجيا أخرجت الرجل من جناتها التواصلية التي صنعت مجده، وأوصلت صوته للأميركيين والعالم، فيما أعلنت شركة «شوبيفاي»؛ منصة تجارة التجزئة الإلكترونية، عن رفضها تسويق المنتجات التي تحمل العلامة التجارية لترمب.
إحدى دور النشر ألغت مخططاً لنشر كتاب لأحد حلفائه؛ سيناتور ولاية ميزوري، الذي رفض إدانة «غزوة الكابيتول»، وصنَّفته الدار بأنَّه شريك للرئيس في تهديد الديمقراطية الأميركية.
لكن لنتمهل قليلاً.
مما لا شك فيه أنَّ ثمة محاولة شرسة لإنهاء «البراند» التي يمثلها ترمب في أعقاب «غزوة الكابيتول» وحصر محاولة إلغائه بجعلها نتيجة مباشرة للعمل الشائن الذي حرض عليه يوم 6 يناير الحالي.
بيد أن مشكلات ترمب مع المؤسسات التجارية الأميركية سابقة على الأسابيع الأخيرة من ولايته. على سبيل المثال لا الحصر؛ سبق لمتاجر «مايسز» العملاقة أن توقفت عن بيع مجموعته من الملابس الرجالية، بعد أن وصف المهاجرين المكسيكيين بـ«المغتصبين» خلال أحد أنشطة حملته الأولى عام 2015.
كما أنَّ المبالغة في قياس تأثيرات تجربته الرئاسية على «سمعته» والاستنتاج أن الرجل انتهى، لا تأخذ بعين الاعتبار أنَّ ترمب صاحب سمعة إشكالية طوال سيرته، اختلطت فيها الإفلاسات والتهرب الضريبي، والفضائح الجنسية والمشاريع الفاشلة والدعاوى القضائية، من غير أن يحول ذلك دون تحوله إلى أكثر الرؤساء الجمهوريين شعبية في تاريخ أميركا!
«براند» ترمب هي في العمق هذا التأرجح الدائم بين صعود وهبوط دراماتيكيين، وهي سيرة ستملأ مخيلة الأميركيين بسيناريوهات العودة الترمبية، والكيفيات والسبل التي سيسلكها الرجل الاستعراضي الكبير في رحلة قيامته الجديدة.
ما يستدل به من أن «البراند» انتهت هو في واقع الأمر «البراند» نفسها في خلاصتها الأخيرة.
2- الثروة: كتب الكثير عن مصير ثروة ترمب في ضوء ما انتهت إليه ولايته الرئاسية. مرة أخرى هناك إغفال متعمد لعوامل أخرى أكثر أهمية تسببت في إيذاء ثروته، بهدف التركيز على تحقير تجربته السياسية، وتسديد مزيد من اللكمات المعنوية لها.
لا يمكن فصل مصاعب ترمب عن المصاعب الأعم التي يواجهها الاقتصاد الأميركي والعالمي بسبب جائحة «كورونا»، لا سيما أن جل استثمارات الرجل الترفيهية والعقارية تتمركز في مدينة نيويورك؛ المدينة الأكثر تأثراً بالجائحة.
بحسب مؤشر «بلومبرغ» للأثرياء، خسر ترمب منذ دخوله إلى البيت الأبيض نحو نصف مليار دولار من ثروته المقدرة بـ3 مليارات دولار. في حين قدرت «فوربس» العام الماضي أن صافي ثروة ترمب الشخصية انخفض بمقدار مليار دولار في أقل من شهر إلى 2.1 مليار دولار، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تأثير جائحة «كورونا».
وبالتالي؛ فمشكلاته الاقتصادية سابقة على الفصل الأخير من رئاسته والذي يراد له أن يكون الرئاسة كلها. قبل «غزوة الكابيتول» كانت عقاراته مثقلة بديون تتجاوز المليار دولار، ويستحق معظمها في السنوات الثلاث المقبلة. كما أن عوائد إيجارات عقاراته التي تراجعت، لم تكن بسبب تخلي المستأجرين عن التعامل مع ترمب، بل هي جزء من تراجع قيمة الإيجارات عامة بنسبة 32 في المائة عن ذروة عام 2018، وفقاً لـ«مجلس العقارات» في نيويورك.
سيحتاج ترمب بالتأكيد لإيجاد ممولين جدد، ومؤمنين جدد بأن الرجل يعتمد عليه. لكن لا يجدر البتة إغفال قدرة ترمب على إيجاد شراكات مالية واستثمارية داخل الولايات المتحدة من كبار المتمولين الذي يتبنون خطه السياسي، أو خارج الولايات المتحدة، حيث بعض هذه الشراكات بادئ قبل رئاسته؛ لا سيما في الشرق الأوسط.
3- الحزب الجمهوري: حتى إشعار آخر؛ ترمب هو الاسم الأبرز في الحزب الجمهوري، والمرشح الحائز تفويض 75 مليون أميركي في الانتخابات الأخيرة، وهو رقم تاريخي بكل المقاييس. الأرقام لعبة شائكة. بعض الأرقام استخدم في الإعلام الليبرالي للإضاءة المتعجلة على خريف الرجل. لكن الأرقام نفسها تكشف حكاية أخرى.
80 في المائة من الجمهوريين الذين استطلع مؤشر «بيو» آراءهم يوافقون على الطريقة التي أدار بها ترمب مرحلة ما بعد الانتخابات. لا يهم هنا أن هذه النسبة أقل ممن أيدوه في فترات سابقة. ما زلنا نتحدث هنا عن نسبة تأييد تصل إلى 80 في المائة. ونحو ثلثي الجمهوريين يرغبون في استمرار الرئيس المنتهية ولايته بأداء دور سياسي في المستقبل. ويعتقد أكثر من ثلثي الجمهوريين أن ترمب فاز بالانتخابات الرئاسية، في حين لا تتجاوز نسبة الجمهوريين الذين يلقون باللوم على ترمب جراء أحداث «الكابيتول» 18 في المائة.
أما التصويت على عزل الرئيس في مجلس النواب، فأظهر أن 10 نواب جمهوريين فقط صوتوا إلى جانب الديمقراطيين، فيما صوت 197 نائباً ضد عزل ترمب، وهو ما يؤكد أن موقعه داخل مؤسسات الحزب وفي أوساط قاعدته العريضة، ليس موقعاً يمكن تجاوزه بسهولة.
لا توجد شخصية في الحزب الجمهوري قادرة على تجاوز هذه الأرقام وتقديم شخصية قيادية جديدة تقود الحزب الجمهوري، إلا في حالة الانقلاب على ترمب وتهيئة الظروف القانونية والسياسية التي تمهد لسجنه، بما يحرمه تالياً من إمكانية خوض انتخابات 2024.
4- الديمقراطية الأميركية: ما حدث يوم 6 يناير الحالي في «الكابيتول»، انقلاب مهد لانقلاب مضاد. جرب ترمب حظه لمرة أخيرة في منع تثبيت نتائج انتخابات يعتقد بصدق أنها سُرقت منه. تلا ذلك واحد من أخطر القرارات في تاريخ الليبرالية الأميركية. حفنة من رؤساء كبريات شركات التكنولوجيا والإعلام الجديد: «تويتر»، و«فيسبوك»، و«أمازون»، و«غوغل»، و«آبل»، تبارزوا لإسكات الرئيس الأميركي ومنعه من حقه في التعبير عن رأيه. القرار اتخذه القطاع الخاص، بلا تفويض من دافع الضرائب الأميركي، وبلا مسوغ قانوني من القضاء، وبتجاوز كامل لكل مؤسسات النظام السياسي الأميركي.
لم يقوَ حتى جاك دورسي، رئيس «تويتر»، على التغافل عن أن ما حدث «سابقة خطيرة»؛ بحسب تعبيره رغم موافقته عليها.
منع ترمب سيصب مياهاً كثيرة في خطابه السياسي المتشكك أصلاً في دور شركات التكنولوجيا وانحيازها، وسيغذي قناعات جمهوره بأن المحافظين عرضة لمؤامرة من الـ«بيغ تِك». المفارقة هنا أن قرار شركات التكنولوجيا الذي أفرح اليسار الأميركي لأن المستهدف هو ترمب، زاد في الوقت نفسه من قلق اليساريين المستنفرين أصلاً من القدرة التلصصية لهذه الشركات وقدراتها على خرق الخصوصيات، وتشكيل الوعي الاستهلاكي للفرد الأميركي، والتحكم في أطر المحادثة العامة...
كما أن إسكات ترمب سيعزز الانقسام الأميركي حول ما تُعرف ثقافياً واجتماعياً بـ«حرب الإلغاء» التي يعتقد المحافظون أن الليبراليين يمارسونها ضدهم، عبر تحقير أفكارهم وقيمهم ومحاولة سوقهم باتجاه قيم جديدة موحدة تكون هي المعيار الوحيد للجدارة والاستحقاق. هي المشاعر نفسها التي استثمر فيها ترمب لإعطاء اليمين صوتاً فاقعاً داخل هذه الحرب الثقافية المستعرة.
شعور المحافظين، حتى الوسطيون منهم، أن قواعد الجدارة المفترضة التي تقررها النخبة الليبرالية، مصممة لرفضهم وتطويعهم، وشعورهم بأنهم الفريق الخاسر جراء الهيمنة الثقافية لليبرالية سيزداد استفحالاً في ضوء منع ترمب من حقه في الكلام، وسيقدم للمحافظين أسباباً إضافية لأن يجدوا في السياسات غير الليبرالية لليمين المتطرف منصة لاسترداد الكرامة الثقافية والسياسية.
دونالد ترمب ليس ظاهرة سطحية في الحياة السياسية والثقافية الأميركية. مصيره يحدد مصائر تتجاوز شخصه ومستقبله هو في مكان مستقبل أميركا نفسها.