لعل من أشرس وأعنف المواقف هي التي تكون من ردود أفعال لأشخاص فوجئوا بوجود رأي آخر، أو وجهة نظر أخرى مخالفة تماماً لما أفنى عمره مؤمناً بها. وتتحول ردة الفعل من صدمة إلى سلوك عدائي من الممكن جداً أن يتضمن السخرية والإهانة والاستهزاء والاعتداء اللفظي، بل وحتى السباب.
فهو يعدّ هذه المسألة إهانة شخصية حادة وجرحاً عميقا لكرامته؛ لأن ثقته بنفسه قد تم هزّها وزلزلتها بشكل عنيف للغاية.
فهذه النوعية من الناس هي التي تقلق على كرامة رأيها وأفكارها وليس على قيمتها ونوعيتها وجودتها، وهو من الناس الذين سيقضون بقية عمرهم يشعرون بالنقص والدونية كلما وضعوا في الموقف نفسه مجدداً لأن ذات المشاعر السلبية لا بد لها أن تظهر مرة أخرى.
ومع الانفتاح الهائل على العالم الذي وفرته عوالم القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت العنكبوتية ومنصات التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها أصبح لكل أحد الحق في أن يكون له رأي في كل مسألة بغض النظر عن مدى ملاءته المعرفية عن تلك المسألة.
وهذه الظاهرة الهائلة التي لم تسلم أي دولة أو ثقافة منها تحولت حالة من الاستقطاب الحاد والتي باتت غذاءً حيوياً للكراهية والعداء. الاستقطاب كان دوماً موجوداً، فعبارات المؤمن والكافر والوطني والخائن والمحافظ والليبرالي ليست بالجديدة، ولكن ما هو جديد هو زيادة مساحات كل تصنيف وانخفاض معدلات التسامح وقبول الآخر.
هناك كتاب مهم ومفيد وعميق بعنوان أكاديمي بحت وهو: «أسباب وأعراض الاستقطاب الاجتماعي والثقافي: دور المعلومات وتقنية الاتصالات»، وهو لمجموعة من المؤلفين والمحررين، يشرح هذا الكتاب بشكل مهم وبالغ الدلالة كيف تحولت الأدوات التقنية الحديثة للتواصل أسلحة للجهل والتطرف، وولّدت بالتالي ظاهرة الأخبار الكاذبة والحقائق البديلة، وزادت من مساحات الشك والقلق والخوف والذعر الاجتماعي والسياسي.
هناك مقولة تاريخية وخطيرة جداً باتت من أهم ما يتم الاستشهاد به، وهي تقول «اكذب اكذب حتى يصدقك الآخرون، ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك» لصاحبها جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي خلال حقبة الزعيم الفاشي أدولف هتلر، وبقدر غرابة تلك المسألة، إلا أن الكثير مما يحصل على منصات العالم الافتراضي هو ترجمة حرفية لهذه المقولة المرعبة. شئنا أم أبينا، فإن الكثير من الأنظمة السياسية ورجال الدين بمختلف انتماءاتهم كانوا حريصين على تغذية الاستقطاب بشكل واضح وصريح؛ لأن بقاءهم واستمرارهم كان مبنياً على أساس بقاء الاستقطاب قائماً، فمن دون الخائن لن يكون هناك وجود للوطني ومن دون الكافر لن يكون هناك وجود للمؤمن.
ودائماً ما كانت الدول تلجأ إلى تقديم مبادرات حوارات الأديان أو ندوات الأحزاب أو مبادرات التسامح وقبول الآخر أو جلسات الحوار الوطني من أجل تحسين المناخ العام وتلطيف الأجواء، إلا أن كل ذلك في حقيقة الأمر هو مساحيق تجميل لوجه منهك ومتعب ومرهق، أحبطته حالات الأمل المتكررة وعلامات الواقع المحبط.
تقبل الآخر وشخصيته يكون بتجاوز الانغلاق الذاتي والأنانية، والتقوقع حول الفكر، والعمل على الانفتاح حول الآخرين وتقبل أي نقد بصدر رحب مت دون الدخول في تحدٍ بأن يقتنع الشخص أم لا. وإدراك أن لكل إنسان شخصيته ومبادئه وأن الحياة ليست لنا وحدنا.
المجتمع الفردي المنغلق والقائم على «الأنا»، جعل الشخص يعتقد أن لا أحد غيره يحق له فرض الرأي، فيغتال شخصية الآخر، ويسعى للهيمنة عليه في حال ناقشه أو حاوره وقد يصبحان عدوين.
هذا يلغي الحوار وأهميته، وفن الاستماع للآخر، حتى وإن اختلفت معه، مبيناً أن الأصل هو احترام الرأي، وبناء ثقافة حوار قائمة على معطيات وأسس فكرية، فالاختلاف لا يفسد في الود قضية.
يضاف إلى ذلك أن سهولة الحصول على المعلومة، جعلت كل شخص يعتقد أنه صاحب الرأي الأصح والأهم، وعلى الجميع الاستماع له، أن مواقع التواصل فتحت المجال لانتشار هذه الظاهرة، فكل شخص يشعر أن لديه منبراً يستطيع أن ينظر من خلاله من دون أن يتقبل رأي الطرف الآخر، فضلاً عن ثقافة «الأنا» لديه والغرور وعدم إعطاء الآخرين فرصة للتعبير عن آرائهم واحترامها.
وعلى مبدأ «إذا لم تكن معي إذن فأنت ضدي»، تحتد النقاشات وقد تتطور لمشاكل كبيرة بين الأشخاص، وخلافات شخصية عميقة لمجرد التعبير عن الرأي الآخر.
سهولة الحصول على المعلومة، جعلت كل شخص يعتقد أنه صاحب الرأي الأصح والأهم، وعلى الجميع الاستماع له، ولكن المسألة تحولت من إبداء رأي إلى تفريغ شحنات من الأمراض والعقد والمشاكل النفسية أشبه بقنابل موقوتة متى ما انفجرت ستطال شظاياها أفراد المجتمع كافة بلا استثناء.