دخلت الحرب الإسرائيلية المسعورة على قطاع غزة شهرها الرابع، وأعداد القتلى فيها قد تجاوزت خمسة وثلاثين ألفاً دون أي بارقة أمل في الأفق لوضع حدٍّ لتلك المذبحة الكارثية غير المسبوقة.
ولقد خرجت مظاهرات هائلة حول العالم وفي قلب المدن الغربية وأهم عواصمها تندد بالجرائم الإسرائيلية وتطالب بوقف فوري لإطلاق النار، ناهيك بالاحتجاجات والاعتصامات والندوات الجامعية والمؤتمرات والمقابلات التلفزيونية والمقالات الصحافية التي تصب في نفس الاتجاه.
والمعسكر الغربي عموماً، والولايات المتحدة تحديداً، يريان أن وقف إطلاق النار الآن ليس من مصلحة أمن إسرائيل. وهي جملة تصطدم بكل القيم التي بُنيت عليها مفاهيم حقوق الإنسان التي تضمنتها دساتير الغرب وحرصت على الدفاع عنها بالقانون والقوة.
جميع المفاهيم النبيلة التي كان الغرب يفتخر برفع شعاراتها، كنصرة المظلوم وحرية الصحافة واحترام الرأي المخالف وتطبيق القانون على الجميع بسويّة وعدالة... جميعها تحطمت وتفتت الواحد تلو الآخر على صخرة الدفاع عن إسرائيل بأي وسيلة وبأي ثمن حتى لو ناقض ذلك الأسس والقيم التي بُنيت عليها الدولة في الغرب.
لا يمكن منطقياً وأخلاقياً الابتعاد عن فكرة تطبيق القرارات الأممية الدولية بحق إسرائيل وانسحابها من الأراضي المحتلة، والقبول العملي الكامل والعادل بإقامة دولتين كاملتي الأهلية والحقوق، وبغير ذلك ستستمر دوامات الدم ومشاهد الدمار.
وفي الأرشيف التاريخي للقيادة السياسية الأميركية هناك كثير من الأسماء والمواقف التي صنعت التاريخ بموقف حازم ومبدأ ثابت، ولكن على ما يبدو أن المشاهد المؤلمة وغير العادلة التي يشاهدها العالم بأسى وحزن وقلة حيلة أثبتت أن مصدر القيادة الأخلاقية والعادلة في الغرب قد جفَّ.
فلم تعد هناك شخصية مثل الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون الذي أصرَّ على أن تكون هناك مرجعية أخلاقية للسياسة، وهي التي جعلته يقود مشروع إنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى.
ولا توجد اليوم شخصية قيادية ملهمة في الغرب توازي جورج مارشال، رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، الذي جاء بعدها إلى منصب وزير الخارجية وقدم مشروع إعادة إعمار أوروبا المتضررة من جراء الحرب العالمية الثانية وآثارها، وهو المشروع الذي عُرف بعده باسمه «مشروع مارشال». وفي السياق نفسه، لا يمكن نسيان الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي الذي قاد سياسة بلاده الخارجية على مبدأ محاربة الشيوعية وحماية حقوق الإنسان، وكان يطبق ما يقوله ويَعد به، حتى اغتيل في ظروف غامضة جداً لا تزال مصدر جدال حتى اليوم.
ولعلَّ أغرب ما يحصل في الغرب ومواقفه المؤيدة لإسرائيل هو الانكشاف التام وبلا خجل لحجم التأييد والانبطاح الكامل، والتسليم بحذافير الرواية الإسرائيلية كسردية معتمدة لما حصل. وواقع الأمر أنَّ هذا التسليم بالسردية الإسرائيلية لم يبدأ في أحداث غزة الأخيرة، ولكنه بدأ مع التغطية الإعلامية الأميركية للغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 عندما كانت نشرات الأخبار المسائية في القنوات الرئيسية الثلاث (لم يكن هناك غيرها في وقتها) تغطي الأحداث عن طريق مراسليها على الأرض، وتكتب على الشاشة: «تمت مراجعة التقرير من القوات العسكرية الإسرائيلية». والشيء نفسه حصل بعد ذلك في تغطيتهم أحداث الانتفاضة الأولى في فلسطين.
كانت هذه بدايات الصدمة الأولى، أو كما سُميت وقتها مكالمة الإيقاظ المؤلمة التي أيقنها المتابع الموضوعي للإعلام الأميركي؛ أنَّ هذا العملاق المستقل الذي أسقط منذ سنوات قليلة قبلها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في فضيحة «ووترغيت» الشهيرة وأجبره على التنحي والاستقالة في واقعة غير مسبوقة، أصبح غير قادر على انتقاد دولة حليفة من المفروض أنها تؤمن بنفس المبادئ وقائمة على نفس القيم، حسبما يروّج له.
غياب الأفكار الخلاقة الكبرى والقيادات الملهمة خلفها مسألة باتت مصدر قلق للغرب عموماً فهي تفسر إخفاقات كبرى متتالية بعد نجاحهم الكبير في القضاء على الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات، وتبقى القضية الفلسطينية دون فكرة كبرى وقيادة قوية في الغرب قادرة على ترجمة المبادئ المؤسسة للبلاد كقاعدة حل للوضع المزري هناك.
خلاصة القول: إن الآباء المؤسسين للدستور الأميركي لم يكونوا يتوقعون أن تُقسَّم مبادئهم الحاكمة حسب الأهواء، وفي حالة التعامل مع إسرائيل تحديداً تَحول حلم الآباء المؤسسين إلى كابوس كبير.